ظل المسحراتي معلمًا من معالم رمضان الرئيسية، واشتقت تسميته من «السحور»، ولم يحقق المسحراتي مكانته دفعة واحدة وإنما نمت بنمو عمله في التسحير إلي أن أصبح مهنة متخصصة ولقد عملت المجتمعات الشعبية علي تحويل التسحير من عمل عارض مؤقت إلي مهنة وتخصص ومأجور، وانتقل من أداة للتنبيه إلي موعد تناول وجبة إلي أداء فنون من القول، الموسيقي والحركة. ويكشف الباحث عبد الحميد حواس عن أن التسحير ليس عادة مصرية ولا عربية بل للحملة الفرنسية وكان يسمي «البورتوبيل» الذي كان يعتمد علي أجراس صغيرة لاحداث الايقاع بدلاً من طبلة المسحراتي، وكان يرتدي ثيابًا خشنة فوق ملاية ويتجول في الصيام وليال الأعياد الكبري. ويؤكد حواس أن الكتابات القديمة تؤكد علي العلاقة الوثيقة بين المحسراتي والبورنوبيل فكلاهما يتوقف عند البيوت التي يتوقع منها تقديم عطاء، وهناك مقولات أن السيدات في العقد الرابع من القرن 19 كان يلففن عملة معدنية صغيرة في قطعة من الورق ويشعلن الورقة ويقذفن بها إلي المسحر حتي يري المسحراتي مكان سقوط العملة، وبعد التقاطها يقوم بتلاوة سورة الفاتحة. ويضيف حواس أن هناك تطورًا فنيا علي عمل المسحراتي فعندما قرر «عتبة بن اسحاق» عام 338ه ايقاظ القائمين بنفسه، فكان يسير من العسكر إلي جامع عمرو بالفسطاط مناديا تسحروا عباد الله..، وكان هناك نوع آخر من التنبيه عن طريق دق أبواب البيوت كلها لتنبيه أصحابها بموعد السحور. واعتاد أهل الشام علي التسحير بدق الطار وضرب الشيابة بينما قام أهل المغرب بضرب النفير سبع مرات من فوق المآذن ثم يضربون بالأبواق سبعاً أو خمسًا، وعندما يتوقف الضرب يحل موعد الإمساك. من جانب آخر حدث تحول في مهنة المسحراتي في الدولة العباسية فلقد كان يصعد إلي سطح المسجد ومعه مساعدان صغيران يجاوبانه حينما يردد «نياما قوما، قوما للسحور» فيرد المساعدان «ايها النوام قوموا للفلاح واذكروا الله الذي «اجدي الرماح» وحرص أهل بغداد علي ظهور المسحراتي بشكل شعري يتناسب مع الغناء بما يسمي «القوما» لأنهم كانوا يكررون في نهاية مقطوعاته لازمة، وعندما انتقل هذا الشكل لبلاد الشام ومصر والمغرب اطلق عليه «الحماق». أما بالنسبة للأدوات الموسيقية فلقد استقر الأمر علي «البازة» واطلق عليه «الطبلة» وأحيانا استخدمت «الدربكة» وبعضهم من استعان «بضاري ذق» أو «بندير».. كذلك استقر الحال علي تقديم فقرات تقليدية تعتمد علي انشاد يتكون من مقطوعات رباعية ذات شطرات قصيرة علي منوال اصحي يا نايم وحد الدايم يتخللها فواصل من التوقيع علي البازه خمس دقات متعاقبة ويضاف إليها فقرات يتم فيها انشاء قصائد في ذكر الله ومدح الرسول، وأخري في سرد قصص دينية مثل معجزات النبي.. وأخيرًا جاءت التكنولوجيا وأجهزة الراديو والتليفزيون ليتصاعد الحال الصراعي الذي يعانيه المسحراتي والذي يهدده بالتلاشي ما لم يعدل من طبيعة دورة وأشكال انتاجه لتتوافق مع التغيرات، كما حدث في بلدان الخليج الذي ظهر فيه المسحراتي ليقود موكب الأطفال في احتفال النصف من رمضان حيث يتجول علي رأس مجموعة من الشباب والصبية يرددون الوداع يا شهر الصيام!