الصيام عبادة تربوية جاءت من السماء وباعتبارها عبادة تلزم كل من اهتدي إلي عقيدة الإيمان الخالص في كل زمان ، لتقوي إيمانه إلي مرتبة الورع، تلك التي يستشعر معها المؤمن الحق بمراقبة الله له، وعلمه بسره ونجواه، فيدفعه ذلك الشعور النفسي إلي التقي حتي يقي نفسه من غضب الله تعالي عن طريق اتباع أوامره واجتناب نواهيه، فيتربي الوازع الداخلي أو ما يسمي في علم النفس الحديث بالضمير الأخلاقي ويكاد يكون الصيام العبادة الوحيدة التي تؤدي إلي الصلة الوثيقة بين الخالق والمخلوق، حيث ترتبط مشاعر الإنسان وعواطفه وأحاسيسه ووجدانه بالله العظيم، ولذا لا يستطيع الرياء أو النفاق أن يتسلل إلي قلب المؤمن الصائم لأن جوهر عبادة الصيام وفحواها يقوم علي الصلة الخفية التي هي سر بين الإنسان وخالقه ، وتنمو هذه الصلة وتتوثق عراها بممارسة المؤمن المخلصة لعبادة الصيام وصدق الله العظيم القائل: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) رواه البخاري، وإذا وصل الإنسان بصيامه إلي هذا المستوي العقائدي والروحي سما إلي أعلي مرتبة يمكن أن يصل إليها إنسان حيث تستضيء المادة فيه بنور الروح وتسخر لتحقيق المثل العليا في هذا الوجود ولكن كيف يحقق الصيام هذه الأهداف والغايات؟ الصيام في اللغة هو الإمساك والكف عن الشيء، وفي اصطلاح علماء الشرع هو الإمساك عن الأكل والشرب والاتصال الجنسي، من الفجر إلي غروب الشمس ابتغاء مرضاة الله ، ولقد حدد القرآن مهمة الصيام في قوله: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب علي الذين من قبلكم لعلكم تتقون) (البقرة : 183). فالصيام فريضة قديمة كتبها الله علي المؤمنين في كل دين سبق الإسلام وفيما تستريح له النفوس وييسر القبول والطاعة والامتثال وعدم الحرج لأن المسلمين ليسوا منفردين بما يطالبون به. لا شك أن الصيام يزكي النفوس ويطهرها وينقيها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة ويرهف الحس وينقي الوجدان ، ويوقظ الضمير فلا يهزم الإنسان أمام الشهوات والملذات ولا تعصف به الأهواء والنزوات وفي ذلك يقول الرسول صلي الله عليه وسلم: (طاعة الشهوة داء وعصيانها دواء) رواه الماوردي في آداب الدين والدنيا، والصيام يذكر بألم الجوع والعطش، فيولد في النفس عاطفة البر والإحسان علي الفقراء ، كما أن فيه كبح لجماح النفس عن الشهوات والملذات والنزوات، فضلاً عن أن الصائم تمنعه تقواه وخشيته عن إبطال ثواب صومه بالمعصية، لأنه يعلم أن الله تعالي فرض الصيام ليكون أداة للتقوي ، وهي ولا شك خير زاد، إذ يقول الحق: (وتزودوا فإن خير الزاد التقوي) (البقرة : 197). ولتكون لها الآثار الواضحة في ضمير صاحبها وفي ذلك يقول الرسول صلي الله عليه وسلم : (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري. من بين أهداف الصيام أنه درع تحمي إيمان المؤمن من ضلالات الأهواء مصداقاً لقول الرسول صلي الله عليه وسلم: (الصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل) رواه البخاري ، وطالما كان الصيام قويماً استحكمت حلقات الجنة ، فضلاً عن أن عبادة الصيام رياضة بدنية تقي الجسم من الإصابة بالأمراض كالسكر والتخمة وضغط الدم وتصلب الشرايين وأمراض القلب والكلي ومن آفات الجوارح والأعضاء ، فالصيام وسيلة تربوية تهدف إلي تعود البعد عن الحرام والتمسك بالعفة والرضا والقناعة والزهد وكل الفضائل . هذا وقد صرح التشريع الإسلامي لصاحب العذر كالمريض أو المسافر أو الرجل الكبير أو المرأة الحامل أو المرضع أن تفطر في رمضان: (فمن كان منكم مريضاً أو علي سفر فعدة من أيام أخر) (البقرة : 184). ولكنه لا يتسامح لمسلم أو مسلمة أن يتخلف عن الوصول إلي الهدف أو الغاية، وهي الخوف من الله تعالي، وما يستتبع ذلك من آثار في النفس والسلوك ومن ثم فإن للصيام أهدافاً حيوية وغايات عملية ترتبط كلها بخواطر الوجدان والشعور وجوانب الأخلاق والسلوك وتدور جميعها في فلك المنهج الرباني لتربية النفس البشرية وتكوين ضميرها وإعداد مقوماتها، وصقل أمرها لتنهض بأمانة الدين وأمانة الدنيا، والتقوي بطبيعة الحال أول هذه الأهداف وأوسعها دائرة وأكثرها حجماً وأجزلها عطاء وأبرزها بأمور الدنيا وأوفاها بشئون الآخرة.