عندي حيثيات كثيرة للإعجاب بالفيلم البريطاني «تربية» أو «An education» الذي أخرجه «لون شيرفيج» أولها في رأيي أنه فيلم ذكي بل وخبيث في التعبير عن أفكاره ورؤيته. الفيلم من حيث حكايته مجرد مذكرات لفتاة بريطانية مراهقة تنخدع في شخص أحبته في بداية دخولها عالم المرأة، ولكنها تستعيد توازنها وحياتها، ولكن من حيث المعالجة أنت أمام لوحة متكاملة لفترة سنوات الستينيات، وبقايا الصراع بين القديم والجديد، بين بريطانيا الجزيرة المعزولة المحافظة، وبريطانيا التي تحاول أن تندمج مع أوروبا الأكثر تحررًا وانفتاحًا. مذكرات تلك المراهقة المأخوذة عن ذكريات حقيقية كتبتها الصحفية «لين باربر» تتحول إلي فرصة من خلال معالجة «نيك هومبي» لعالم متسع لا يحاول الانتصار لخبرات الكتب في مقابل خبرات الحياة المباشرة كما قد يعتقد أصحاب النظرة السطحية ولكنه ينتصر للاثنين معًا لكي تصبح بطلته التي تجسد مستقبل جيل الستينيات مزيجًا من تربية الكتب وتربية خبرة الحياة، حتي لو تركت الأخيرة جراحًا وحسرات لا يمكن نسيانها. لم يكن غريبًا إذن أن يلفت فيلم «تربية» الأنظار وأن يرشح لثلاث جوائز أوسكار في الدورة الثانية والثمانين الماضية، وفي فروع أساسية مثل «أحسن فيلم» و«أحسن ممثلة» للرائعة «كاري موليجان» وأحسن سيناريو مقتبس ل«نيك هومبي»، بل إن «كاري» فازت بجائزة البافت البريطانية لأفضل ممثلة، وفاز «هومبي» بنفس الجائزة لأفضل سيناريو، كما حصل «ألفريد مولينا» عن جائزة البافتا لأحسن ممثل مساعد عن دور الأب «چاك» في نفس الفيلم، ورشح الفيلم بأكمله لثماني جوائز «بافتا» في دورتها الأخيرة، كل هذه الجوائز تشير إلي أن هناك شيئاً ما « فيلم «تربية»، ولكن كل ذلك لا يعني شيئًا ما لم يكن الفيلم كذلك، والحقيقة أن «تربية» يستحق هذه الضجة وهذا التكريم لذكائه في المعالجة، ولقدرته علي الخروج من ذكريات ضيقة إلي أفكار أشمل تدعو للتأمل. يقارن الفيلم طوال الوقت بين نوعين من الخبرات: خبرة الدراسة والتعليم النظامي التقليدي، وخبرة التعامل المباشر مع تجارب الحياة، وينتقد سلبيات كل نوع من الخبرات ينتهي إلي أن أحدهما لا يغني عن الآخر، بل إنني أميل أكثر إلي انحيازه إلي فكرة التجربة والخطأ بدلاً من أن تخاف الحياة وتتجمد داخل الحجرات المغلقة، أقول ذلك رغم أن بطلتنا الشابة تألمت من الخداع في الحب، ولكنها اكتسبت خبرة ستحميها بالتأكيد عندما تبدأ دخول العالم الأوسع في جامعة أكسفورد. المكان والزمان والشخصيات كلها حاضرة وبقوة، نحن الآن في إحدي مدارس البنات المتزمتة في ضاحية توكينجهام عام 1961 انضباط في كل شيء، في طريقة المشية المعتدلة، وفي الملابس المحتشمة، وفي تدريس النصوص الكلاسيكية اللاتينية. أما الشخصيتان الأساسيتان فهما من عالمين مختلفين حقًا «چيني» (كاري موليجان الطالبة ذات الستة عشر عامًا التي تحب العزف علي الكمان ولكنها أشطر الطالبات، والدها «چاك» (ألفريد مولينا) ليس لديه حلم سوي أن تدخل ابنته جامعة أكسفورد العريقة لكي تصل إلي الشخصيات المرموققة أمها «مارجوري» سيدة منزل إنجليزية تقليدية، أسرة كلاسيكية محافظة لدرجة أن الأب يحضر الشاب الطالب «جرام» للمنزل لكي يلفت نظر ابنته إلي أنه ربما يكون عريس المستقبل، الأب أيضًا لا يوافق بسهولة علي مصاريف دراسة الكمان، ولا عن ذهابها لحضور الحفلات المدرسية التي تتم عادة بمصاحبة الأب والأم، «چيني» تحلم بالحرية والانطلاق وبمشاهدة الأفلام الفرنسية، الجامعة بالنسبة لها هي فرصة للحرية وليست للدراسة، وأقصي ممارسة للحرية تقوم بها أن تدخن مع زميلاتها بعيدًا عن الأنظار. أما هو فرجل في منتصف العمر، ربما كان فوق الأربعين اسمه «دافيد جولدمان» (بيتر سارسجارد) يقول ل«چيني» في لقائهما الأول بالمصادفة إنه ليس جامعيًا ولكنه تخرج في جامعة الحياة، يسلب عقلها بوسامته وذكائه وأناقته في اللقاء الأول يأخذها في سيارته «البريستول» لإنقاذها من ماء المطر، ويستطيع بلباقته أن يقتحم حصن المحافظين في منزل «چيني»، يتعرف علي الأب والأم، وينجح في إقناعهما بمصاحبة «چيني» في جولات مختلفة ومتنوعة باستخدام أكاذيب في معظم الحالات، مرة يأخذها إلي عشاء ويعرفها لأصدقائه «داني» و«هيلين» والأخيرة هي النقيض تمامًا من شخصية «چيني». إن «هيلين» نموذج للمرأة التي لا علاقة لها بالكتب أو الثقافة، ولكنها ابنة الحياة، وأسئلتها ل«چيني» تؤكد أن هذه المرأة التي ترتدي أفخر الملابس أجهل من دابة لدرجة أنها تعتقد أن اللاتينية مازالت لغة مستخدمة، وتتوقع أن يتوقف «اللاتينيون» عن استخدامها بعد 50 عامًا. في كل مرة ينجح «دافيد» اليهودي الذي يعشق باريس في أسر «چيني» بذكائه، يأخذها إلي حفلات موسيقية، مزادات، بل ويصطحبها إلي أوكسفورد اعتمادًا علي كذبه أنه يعرف الكاتب المشهور «كلايف لويس» مؤلف قصص «نارنيا» المشوقة، وأثناء الزيارة يقوم مع «داني» بسرقة خريطة أثرية نادرة، ورغم اعتراض «چيني» فإنها تنجرف تمامًا إلي فكرة تجربة الحياة كما هي وليس كما تبدو في الكتب وعندما تسافر معه إلي باريس تسلم له جسدها بعد أن قررت أن تتخلص من عذريتها عندما تبلغ السابعة عشرة تتراجع جيني في دراستها وتسخر من جمود مدرستها «مس ستبس» ومن ناظرة المدرسة «مس والترز» (النجمة الكبيرة) إيما تومسون، تقرر ترك الدراسة لتخطب إلي دافيد ولكنها تكتشف بالصدفة أنه متزوج وله طفل وأنه اعتاد إغواء المراهقات. بمساعدة «مس ستبس» ستعود چيني إلي مدرستها وستحقق الدرجة المؤهلة للالتحاق بأكسفورد وفي مشهد النهاية نراها وسط زملائها في الجامعة العريقة وعلي شريط الصوت تقول إنها عرفت الكثير من الشباب وأن أحدهم اقترح عليها أن يذهب إلي باريس فادعت أنها لم تذهب إليها علي الإطلاق.. ينتقد الفيلم شديد النعومة والتأثير جمود مؤسسات التعليم التقليدية وإن كان يؤمن بأنه لا غني عن الجامعة باعتبارها مستودعاً للخبرات المكتوبة وينتقد في الوقت نفسه الاندفاع في خبرات مؤلمة في سن مبكرة ولكنك لا تستطيع أن تنسي أن أفضل مشاهد الفيلم هي لحظات انفتاح جيني علي العالم في لندن أو في باريس كما لا تستطيع أن تنسي أن أكثر لحظات الفيلم إضحاكا هي مشاهد الأب المتزمت الذي يؤدي تشدده إلي وقوع الابنة في تجربة مؤلمة ومشاهد العريس الشاب «جرام» الذي يثير السخرية لالتزامه بكل شيء. الحقيقة أن مشهد النهاية الذكي يلخص كل شيء: چيني في أكسفورد تقديراً واحتراما لخبرة الكتب ولكنها تمارس الكذب علي صديقها الشاب بالادعاء أنها لم تزر باريس رغم أنها جربت الحب هناك للمرة الأولي كأن الفيلم يقول إن چيني وتجربتها لم تضع سدي وأنها تكاد تحمل محل دافيد في الكذب مستعينة بخبرتها السابقة رغم مرارة نتائجها. نجح المخرج «لون شيرفيج» في استعادة أجواء الستينيات وفي إدارة ممثليه البارعين خاصة كاري موليجان التي قدمت شخصية لا تنسي تجمع بين البراءة والمكر. إن وجه كاري مرآة شديدة الحساسية لانفعالات مختلفة بل إنها بدت مقنعة جدا سواء في فترة مراهقتها أو في مشاهد تحولها لامرأة وإحساسها بأنوثتها بعد احتفالها بعيد ميلادها السابع عشر، هناك أيضا براعة بيتر سارسجارد في دور دافيد بجاذبيته وأناقته وبتجسيده لأوروبا المتحررة التي تقتحم إنجلترا المحافظة ولا ننسي ألفريد مولينا في شخصية توقعك من الضحك من فرط جديتها والتزامها ثم تكتشف في لقاء مؤثر مع ابنته أنه شخص ضعيف وخائف يرتدي قناعا طوال الوقت لإدارة أسرته الصغيرة. ولعل أجمل ما في فيلم «تربية» أنه جعل الكلمة بدون أداة التعريف وكأنه يدعو إلي تربية متعددة المصادر من الكتب والمدرسة والجامعة ومن الأصدقاء ومن الحياة ومن الزمن الذي نعيشه ومن الرحلات والسفر المهم أنه لا تربية صحيحة دون عقل ناضج واختيار حر ووعي دائم بالعصر وبالذات وبالآخرين ويا له من درس لمن أراد أن يتعلم!