من بين أربعة عشر فيلماً شاركت في المسابقة الدولية لمهرجان الإسكندرية السينمائي الدولي كتبت علي هذه الصفحات، وقبل شهر من انعقاد المهرجان مقالا عن فيلم (مرحبا ) الذي فاز مؤخرا بنصيب الأسد من جوائزه. فقد منحته لجنة التحكيم الدولية جائزة أفضل فيلم كما حصل كتابه الثلاثة فيليب ليوريه وإيمانويل كورسول وأوليفيير آدم علي جائزة أفضل سيناريو مع الإشادة بمعالجته المبتكرة. أما الفيلم نفسه فقد احتفت به اللجنة في تقريرها المعلن ووصفته بأنه بحث فني عميق حول الروابط الإنسانية بين مدرب سباحة فرنسي يساعد شابا عراقيا، مهاجرا غير شرعي علي خلفية لمشكلات التمييز العرقي في فرنسا. ولا شك أنني أشعر بمنتهي الرضا عن جائزتي هذا الفيلم فقد ذكرت أن فيلم ( مرحبا ) هو درس حقيقي في بلاغة أسلوب الخطاب السينمائي وفي تضافر عناصر اللغة السينمائية من أجل تحقيق التعبير والتأثير الدرامي المطلوب وبأسلوبية واحدة وهارمونية متحققة بين مختلف هذه العناصر. لكن هل يعني هذا أن كل الجوائز جاءت قريبة من توقعاتي؟ بالنسبة لجائزة أحسن مخرج حصل عليها إيجورستيرك عن فيلم (الساعة التاسعة وست دقائق) من سلوفينيا وذلك لما رأته اللجنة من تناوله الرحلة النفسية الداخلية لضابط شرطة مضطرب وكذلك لرؤيته الممتازة ومعالجته المبتكرة. تنطلق احداث الفيلم من التحقيق في حادث انتحار غامض لموسيقي معروف، ينهمك فيه مفتش المباحث بكل جوارحه حتي يصل إلي حالة من التوحد التام مع شخصية القتيل. وليكشف لنا الفيلم شيئا فشيئا عن أوراقه التي صاغها سيناريومدهش وحققها مخرج متمكن حتي تنجلي الصورة عن مأساة هذا المفتش الشخصية. ولا تقف الأمور عند هذا الحد، بل ينطلق الفيلم إلي آفاق فلسفية أرحب بتساؤلاته التي يطرحها حول العلاقة المتبادلة بين الإنسان والزمن حيث يتكرر وقوع حوادث مهمة في نفس التوقيت. يعد الفيلم في رأيي تحفة سينمائية من سلوفينيا نفذت إلي قلوب أعضاء اللجنة فمنحوا الفيلم إحدي أهم جوائزهم وأكبرها. ولا شك أن إيجور ستيرك كان ضمن دائرة المرشحين لجائزة الإخراج ليس لي وحدي ولكن بالنسبة لكل من شاهد الفيلم. جائزة أثارت الاستنكار حصل فيلم ( امرأة بدون بيانو) من إسبانيا علي جائزة أفضل عمل ثان للمخرج خافيير روبوللوالذي رأت لجنة التحكيم أنه حقق معالجة مبتكرة ومحاولة لاكتشاف لغة جديدة لسرد قصة نسائية عن حياة ربة بيت وطموحها لتغييرها.. وتجدر الإشارة هنا أن هذه هي الجائزة الوحيدة التي تعالي مع إعلانها أصوات الاستنكار في قاعة مسرح سيد درويش والتي شهدت حفل الختام وتوزيع الجوائز . فقد أثار الفيلم استياء معظم من حضروه وربما يكون الفيلم الوحيد من بين افلام المسابقة الذي لامني البعض علي إختياره . وفي رأيي الشخصي أن المخرج اجتهد كثيرا في توليف شريط بصري وصوتي متناغم اعتمادا علي سيناريو محكم وأداء تمثيلي رفيع لبطلته . ولكنه علي الرغم من هذا قدم فيلما تقليديا وإيقاعا ثقيلا جدا لا يتحرك ولا يتواءم مع مسار الأحداث، مع خالص الاحترام لأسلوبيته أو رؤية مخرجه .. فهو لم يتمكن من توظيف المونتاج والإيقاع الحركي والسينمائي في التمييز بين حالتين تعيشهما بطلة الفيلم من واقع يومي فاتر وممل وروتيني إلي حياة خارجية مغامرة ومنفتحة. تجربة شجاعة وهو ما يتناقض تماما مع أسلوبية البناء الضوئي واللوني للفيلم التي تفنن في تحقيقها مدير التصوير لإبراز هذا التناقض. ويعد هذا الفيلم في رأيي اقل بكثير من فيلم (المسافر) الذي رغم كونه العمل الأول لمخرجه أحمد ماهر إلا أنه تجربة في منتهي الشجاعة والنضج. ففيلم المسافر سواء قبلته أورفضته، أحببته أوكرهته، أثار إعجابك أواستياءك، هو بلا شك فيلم مختلف ومتقدم ..وهوايضا ينحو وبمنتهي الوضوح تجاه سينما حداثية بل وبعد حداثية في بعض جوانبه.. وهوأيضا يعبر بقوة عن ثقافة صانعه - مؤلفه ومخرجه أحمد ماهر - السينمائية والعامة، العميقة والمركبة واستلهامه لتراث سينمائي وروائي وفكري، وسعيه بقوة في ذات الوقت نحوتقديم رؤية ذاتية مستقلة من الغريب انها تبدو بهذا الوضوح والنضج من خلال عمله الروائي الأول. حصل إيرفين بيجليري علي جائزة أفضل ممثل عن فيلم شرق غرب شرق من ألبانيا. لعب الممثل دور مدرب فريق دراجات يفقد - أعز ما يملك - دراجاته في ظل مواجهة ظروف ومعوقات في غاية الصعوبة أثناء رحلة اغتراب وفي سعي حثيث للعودة إلي الوطن بلا تأشيرات ولا نقود . وكانت هذه الجائزة من أكثر المفاجآت بالنسبة لي فلم يكن هذا الممثل ضمن حساباتي أوتوقعاتي للجوائز، بل إنني لا أكاد أتذكر دوره أوألمح أي تميز في أدائه أوصعوبة في طبيعة الشخصية التي قدمها. فهو فيلم يعتمد علي البطولة الجماعية وحيث يصعب أن تظهر قدرات الممثل في ظل سيطرة الحدث والموقف الدرامي . ولا أعرف ما الذي دفع لجنة التحكيم لاختيار هذا الممثل بالتحديد من هذا الفيلم لمنحه هذه الجائزة . وكنت أتوقع أن تذهب هذه الجائزة للممثل الفرنسي الكبير فينسنت لندن عن دوره في فيلم (مرحبا) . فهو يواصل في هذا الفيلم التأكيد علي قدراته الخارقة في التعبير ببساطة.. ومن أن يمنح خطواته ونظراته وكلماته رونقا خاصا وإحساسا جليلا رغم بساطته المفرطة. وهو يعبر بأدائه الهادئ ونظراته الصامتة عن بحر متلاطم من المشاعر والانفعالات المتضاربة والتي تفرض علي الكاميرا أن تتوقف أمامه كثيرا لتسجل تعبيرات وجهه النابضة، لكن ربما رأت اللجنة أن (مرحبا) حصد ما يكفيه من جوائز. زرينكا أم سوزان ؟ حصلت زرينكا سفيتيزيتش علي جائزة أفضل ممثلة عن فيلم ( علي الطريق ) من البوسنة لإبداعها في أداء دور امرأة تتمزق بين حبها ومقاومتها للتعصب بعد أن انضم رجلها إلي جماعة أصولية . وزرينكا تستحق جائزة بالفعل عن هذا الدور لأدائها الراقي بصدق دون تشنج أومبالغة لشخصية تواجه أعتي الأزمات في حياتها الخاصة وتسعي باستماته للحفاظ علي حاضرها ومستقبلها . لكن مما لا شك فيه أن زرينكا كانت في منافسة شديدة مع بطلة الفيلم التركي ( خطوة نحوالظلام ) والتي حملت علي عاتقها البطولة المطلقة في دور الناجية الوحيدة من بين أهالي قريتها التركمانية بعد غارة أمريكية ولا يبقي لها هدف في الحياة سوي الوصول إلي شقيقها المريض في اسطنبول.. وحيث تواجه في هذه الرحلة عالما جديدا عليها مفعما بالخطر والتطرف. وحيث تنجح الممثلة في معايشة الشخصية وتصعيد حالتها الانفعالية بمنتهي الثقة والتمكن حتي تصل بنا إلي ذروة المأساة. جوائز تائهة أما الفيلم الإيطالي المساحة البيضاء فقد تاهت عنه الجوائز التي أعتقد أنه رشح لمعظمها ونافس عليها بقوة . وهو فيلم يرصد بدقة وإبداع مشاعر أمومة تتفجر وتنمو داخل امرأة وحيث تتضافر مختلف عناصر الفيلم في صياغة حالة شعرية متدفقة بأداء معبر لممثلة تقضي معظم مساحة الفيلم في حوار غير منطوق مع هذا الكائن العظيم الذي يتكون بداخلها. تاهت الجوائز ايضا عن الأفلام العربية الثلاثة من خارج مصر وأفضلها في رأيي (حراقي ) الجزائري والذي يصور بواقعية شديدة محاولة يائسة للهجرة غير الشرعية يقوم بها مجموعة من الشباب لم تعد حياتهم تمثل شيئا بالنسبة لهم، وإن كان البعض يميل أكثر إلي الفيلم اللبناني ( كل يوم عيد ) بنزعته التجريبية ونظرته المتعاطفة بشدة مع المرأة في المجتمعات العربية بمختلف أوضاعها - أوضاع المرأة طبعا وليس المجتمعات فهي لا تختلف كثيرا - ففي قلب الصحراء يخترق سيارتهن طلق ناري ليسقط السائق قتيلا. وأثناء رحلة شاقة سيرا علي الأقدام في هذه الأجواء القاسية تتوالي تفاصيل كثيرة من الذكريات عن حياتهن البائسة. أما الفيلم المغربي ( المنسيون ) لحسن بن جلون، فكنت اعرف من البداية أن فرصته ضعيفة في السباق في مواجهة أفلام في منتهي القوة والتميز. وإن كان هذا لا يمنع من أنه فيلم يليق بالمسابقة الدولية. فهو قصة جديدة أيضا حول الهجرة غير الشرعية. وتدور الأحداث في بروكسل التي يكتشف البطلان بعد وصولهما إليها أن أحلامهما بالجنة أودت بهم إلي الجحيم في قلب عالم تحكمه العنصرية ويفرض عليهم أحط المهن. ولا يبقي سوي الحديث عن جائزة لجنة التحكيم الخاصة التي منحتها لفناننا الكبير العالمي عمر الشريف والتي نوهت في حيثياتها إلي أنها منحتها له لمهارته التمثيلية وإنجازاته في السينما المصرية والعالمية لعقود كثيرة ولدوره في فيلم المسافر - مصر بحضور كاريزمي في عمل أول لمخرجه. وهكذا ربما أرادت اللجنة ان تمنح الفيلم ومخرجه بوجه خاص أحمد ماهر جزءا من الحق في هذا التنويه، وإن كان هذا الفنان الشاب أكبر بكثير من هذا التنويه. وفي النهاية ورغم خلافي واختلافي مع قرارات لجنة التحكيم الدولية إلا أنه لا يمكنني إلا أن أؤكد علي تقديري لآرائهم ولجهودهم الكبيرة وجديتهم الشديدة وحضورهم المبكر للمهرجان لمشاهدة أربعة عشر فيلما أعلم جيدا أن التنافس بينها كان شديدا. وان اللجنة كانت في حيرة من أمرها تجاه العديد من الجوائز مما اضطرهم لقضاء معظم وقتهم خلال أيام المهرجان مستغرقين في اعمالهم حتي يتوصلوا إلي هذه النتيجة بمنتهي النزاهة والموضوعية.