في الدراما يعرف الكتاب نقطة الإضاءة التي تنير المواقف أمام الشخصيات.. وبناء عليها يقررون مواقفهم التي تطور الأحداث.. وفي السياسة تمثل استطلاعات الرأي مصابيح تضيء المناطق المظلمة أمام السياسي الذي يرغب في أن يتواصل حقًا مع الرأي العام.. إما لتلبية احتياجاته.. أو لمخاطبة توجهاته.. أو سعيا لأصوات الناخبين.. أو لكل ذلك معًا. أول من أمس شهد نقطة إضاءة من هذا النوع أمام السياسيين في حزب الأغلبية.. الوطني.. حين تم الكشف عن استطلاع علمي لرأي الناس.. جري بطريقة منهجية منظمة.. وأظهر نتائج ليست مفاجئة.. ولكن تحليلها ضروري.. ومن المدهش أنه رغم أن هذا الاستطلاع يجري بصفة سنوية.. ولم يكن يكشف عنه خارج الحزب.. إلا أن «الوطني» منح الفرصة للأحزاب الأخري لكي تحصل علي «التنوير» الموازي.. بأن كشف عن نتائجه.. ونشرها. النتيجة الأهم التي لابد من التوقف أمامها عنوانها، كما أشرت في تقرير إخباري بالأمس، أن هناك فجوة رهيبة وهي متسعة بين ما يراه الناس.. وما تعتقده النخبة السياسية التي تقدم نفسها باعتبارها قيادة رأي في هذا المجتمع.. الناس غير مشغولة تقريبًا إلا بالقضايا ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي.. والملفات السياسية تتراجع أهميتها في تقدير الرأي العام بطريقة تظهر أن الناس في وادٍ والنخبة في وادٍ آخر تماما. مثل هذه الاستطلاعات تمثل نقطة جوهرية لدي أي كيان سياسي لكي يحدد أولوياته.. وبناء عليه يقرر سياساته وكيف سيتوجه للناس.. إذ ليس عليه أن يتوجه لمن لا يعرفهم.. وبالتأكيد هذه الآلية تنفي عن «الوطني» أنه يعيش بمعزل عن الناس.. أو أنه في غرفة مغلقة.. بخلاف آليات أخري يتواصل بها مع الجمهور.. وحين يظهر استطلاع للرأي أن الناس منشغلة أكثر بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية فإن علي النخبة التي تصرخ بضرورة تعديل الدستور وتراه مطلباً جوهرياً لتغيير شكل الحياة في مصر.. أن تراجع نفسها علي الأقل.. ولا أقول أن تسكت. وتعليقاً علي ذلك قد يقول قائل: إن المصريين يهتمون بكرة القدم أكثر من أي شيء.. فهل نحّول البلد إلي ملعب كبير؟.. وأجيب بأن هذا ليس هو المقصد.. وإن ما أعنيه هو ما يلي: - إن علي من يدعي أنه يتحدث باسم الناس أن يراجع قناعاته.. من مصلحتي السياسية حتي لو اختلفت مع معارض يقول: إن الناس تريد تغيير الدستور.. أن يكون هذا المعارض متواصلاً مع الرأي العام.. أن يدرك ماذا لدي الشارع.. لأنه حين لا يكون كذلك فإنه يهدر طاقته.. ويهدر طاقة الناس في أن يضع علي أجندتهم ما لا يريدونه.. ويشغل الجمهور بما لا يستحق.. فإذا ما أصر علي هذا الذي يخالف احتياج الناس واهتمامهم.. فإنه بذلك يكون لديه هدف.. أو خطة.. الله أعلم بها. - إن تكاتف الجهد، من الأغلبية والمعارضة، في اتجاه القضايا التي تشغل الناس وتثير اهتمامهم، حتي لو اختلفت الرؤي، يؤدي إلي خلق مناخ مكثف من تنوع الأفكار المفيدة للمقاربات المختلفة لقضايا مهمة.. بدلاً من إهدار الجهد في تحديد ما هي الأولوية. - إن الحزب الوطني نفسه إذا واجه من استطلاعات الرأي نتائج تخالف توقعاته أو أولوياته.. فإنه لا يضع اختيار العدول عنها أولاً.. وإنما الاتجاه إلي الإيمان بأن الرأي العام قد يحتاج مزيدًا من التوضيح والشرح.. وكمثال فإن الاستطلاع أظهر أن نحو ثلث المجتمع لم يسمع بمشروع تطوير التأمين الصحي ولم يسمع بمشروع تطوير الثانوية العامة.. وهذا لا يعني أن أهميتهما أقل.. وإنما أن علي الجهات المختصة أن تصل أكثر إلي الناس. والواقع أن الفجوة التي توجد بين الناس وبين المعارضة لا تقتصر فقط علي مسألة أن الناس مشغولة بالأسعار أكثر كثيرا من اهتمامها بقضية تعديل الدستور.. وبالتوظيف أكثر جداً من انشغالها بقضايا الإصلاح السياسي.. ولكنها تمتد إلي مسائل أخري كثيرة.. ومن بينها مثلاً أن المعارضين يعتقدون أن الحملة المستمرة علي حزب الأغلبية قد خلقت تأثيرًا في مكانته لكن الاستطلاع يثبت عامًا تلو آخر أن الثقة في هذا الحزب لها معدلات ثابتة.. وأن الإيمان بقدرته علي الاستجابة لمطالب الناس يفوق أي حزب آخر بمراحل.. بل والتيار الديني.. وهذا التفوق ليس عند نقطة يمكن الاقتراب منها.. وإنما المؤشرات تقول: إن هناك اكتساحًا كاملاً تقريبا. لم يدهشني، وإنما أثار التساؤلات في ذهني، أن الرأي العام لم يعط للتيار الديني أكثر من 1% ووفقاً للطريقة العلمية التي يتم التعامل بها مع تلك الاستطلاعات فإن معدلات الخطأ قد تكون نسبة 3% لأعلي أو لأسفل.. وحتي مع افتراض أن هذا الخطأ قد حدث فإن معدل 4% يشير إلي موقف مفاجئ.. حول موقف الرأي العام من التيارات الدينية.. ما يتطلب استطلاعاً موسعاً وعلمياً خاصاً. الأمر نفسه ينطبق علي أحزاب كبيرة مثل التجمع والوفد والناصري، يظهر الاستطلاع أنها تقريباً غير موجودة بين الناس.. أو معدل الثقة فيها لا يزيد علي 1%.. وهذا كلام خطير.. وضد منطق الحياة الحزبية.. وضد الإيمان بوجود الديمقراطية.. خاصة إذا كان ما يزيد علي 50% من المصريين يعتقدون أن في مصر ديمقراطية. إن عدم اهتمام الناس بالأحزاب لا يعني أن علينا أن نلغي الأحزاب، كما أن تراجع اهتمام الناس بالحصول علي المعلومات السياسية من القناتين الأولي والثانية لا يعني أن علينا إغلاقهما، والتعامل مع قنوات «دريم والمحور والحياة» التي تصدرت الترتيب، ولكن بالتأكيد هناك إصلاح ينبغي أن يتم.. علي المستوي الحزبي وعلي المستوي الإعلامي. وبالتأكيد سوف تكون هناك إطلالة أكثر عمقاً علي هذه النتائج. الموقع الألكترونى : www.abkamal.net البريد الألكترونى : [email protected]