لا أخفي إعجابي واحترامي وحبي لقيمة وقامة في حجم ومكانة ومكان «الدكتور محمد حسين هيكل» باشا رغم أنه واحد من أهم الرموز الأدبية والفكرية والسياسية لعصر وزمن ما قبل ثورة يوليو 1952 . ويتزايد الاحترام والإعجاب والتقدير بتجربة هيكل باشا الصحفية والوزارية التي سجلها بكل الأدب والصدق في ثلاثة أجزاء مهمة أطلق عليها عنوان «مذكرات في السياسة المصرية». تولي هيكل باشا وزارة المعارف - أي وزارة التربية والتعليم الآن - أكثر من مرة في الفترة بين عامي 1938 و1945 . وتستحق تجربته الوزارية أن تقرأها بهدوء وسعة صدر ولا أعرف إذا كان وزراء التربية والتعليم الذين تعاقبوا علي هذه الوزارة قد قرؤوها أم لا! فهموم ومعاناة الوزير واحدة أمس واليوم وغدًا بإذن الله!! يحكي الوزير مندهشًا ومتعجبًا كيف أنه عقب توليه مهام الوزارة جاءه وكيل الوزارة ومعه مذكرة بنظام العمل وبأقسام الوزارة واختصاص كل قسم منها ثم سأله هل يريد أن يبدل برجال مكتب الوزير السابق أشخاصًا جددًا له بهم ثقة خاصة، ورفض هيكل باشا هذا الطلب وكتب معلقًا: إن الوزير لا يتولي عملاً خاصًا يحتاج إلي من يكون فيه موضع سره بل يتولي عملاً عامًا هو توجيه سياسة الدولة في الوزارة التي يتولاها فكل موظف مخلص لعمله، لا لشخص وزير بذاته، يستطيع أن يعاون في هذا العمل العام، وقدرة الموظف وكفايته لا تعلقه بشخص الوزير، يجب أن تكون المقياس والمؤهل لبقائه في العمل الذي يقوم به». ويضيف د. هيكل باشا موضحًا وشارحًا فيقول: «كنت أعلم يومئذ، كما أعلم اليوم، أن هذه النظرية تخالف في أساسها ما يجري عليه العمل في دواوين الحكم بمصر، فالوزير يحرص علي أن يحاط في مكتبه برجال يثق هو بإخلاصهم لشخصه أولا وبالذات. ويرجع سبب الخلاف في هذا الأمر بيني وبين الكثيرين غيري ممن يتولون الوزارة إلي خلاف أكثر عمقًا وأجلّ خطرًا لأنه يتعلق باختصاص الوزير نفسه، يري غيري أن الوزير هو الرئيس المباشر لموظفي ديوانه، وأن شئون هؤلاء الموظفين جميعًا في تعيينهم وترقيتهم ونقلهم وتأديبهم وفصلهم، هي من شئونه الخاصة يتولاها وينفذها وفق إرادته (!!!) فهو الذي ينظر ويفصل فيما جل ودق من شئون هؤلاء الموظفين! وهذا الأمر يحتاج إلي تحريات وإلي طمأنينة شخصية ولا يستطيع الوزير منفردًا أن يتولاه بنفسه، فلا بد له من أعوان يكونون موضع ثقته يقومون بالتحريات ويبلغونها إليه، ويدخلون إلي نفسه الطمأنينة إلي أن كل شيء يجري في حدود ما يرسمه! وهذا كله تكتنفه أسرار إن لم يقف الوزير عليها من أهل ثقته تعرض للخطأ والنقد ولا منجاة له من الخطأ ومن النقد إلا أن يحيط نفسه بسياج حصين من رجال سرهم سره، وعلانيتهم علانيته، وميولهم ميوله، وأهواؤهم أهواؤه! ذلك رأي الكثيرين ممن يتولون الوزارة، أما أنا فأري غير هذا الرأي، أري أن الوزير ليس هو الرئيس المباشر لموظفي وزارته بل هو الرئيس الأعلي لهؤلاء الموظفين، يرسم لهم السياسة التي يري أن تسير عليها الوزارة ويطالبهم بتنفيذها. وقدرته علي رسم هذه السياسة واطمئنانه إلي حسن تنفيذها يستندان إلي عنصرين أساسيين: أولهما آراؤه الخاصة، وثانيها صدق المشورة التي يبديها هؤلاء الموظفون في تصوير هذه السياسة التي يريد الوزير تنفيذها، أما والسياسة التي يراد تنفيذها ليست هوي خاصًا للوزير ولكنها مصلحة عامة للشعب كله، فإخلاص الموظفين لعملهم وكفايتهم فيه يكفلان تطبيق السياسة التي يريد الوزير تطبيقها علي خير وجه، أما أن يعيَّن حاجب هنا أو هناك، ومدرس هنا أو هناك، وأما أن ينقل موظف من بلد إلي بلد فهذه جزئيات يتولاها المختصون من رجال الوزارة، وموقف الوزير منها لا يتعدي الإشراف علي عدالتها وتحريها المصلحة العامة مصلحة العمل، مع التوفيق بين هذه المصلحة وطمأنينة الموظف بقدر الإمكان. ولا تنتهي الدروس والعبر في مذكرات د. حسين هيكل باشا، إنها درس للقارئ العادي وأيضًا الوزير المسئول. فالهموم واحدة والمشكلات واحدة، ويبدو أننا نكره التقدم خطوة واحدة، إلي الأمام، علي الأقل هذا ما فهمته من حكايات «هيكل» باشا وأغلبها ما زلنا حتي الآن نتوجع ونئن منه!!