ربما كانت تلك هي المرة الرابعة أو الخامسة التي اقرأ فيها مذكرات الدكتور «محمد حسين هيكل باشا» والتي أسماها «في السياسة المصرية» وتقع في ثلاثة أجزاء يبلغ مجموع صفحاتها حوالي ألف و 66 صفحة، وقد صدر الجزء الأول والثاني في حياة هيكل باشا، وصدر الجزء الثالث بعد رحيله بسنوات طويلة تحت إشراف وإعداد نجله المحامي المرموق «أحمد محمد حسين هيكل». وأخيرًا صدرت طبعة جديدة من المذكرات عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في سلسلة ذاكرة الكتابة التي يرأس تحريرها المثقف البارز واستاذ التاريخ د. «أحمد زكريا الشلق». بسعر رمزي زهيد خمسة جنيهات للجزء الواحد. ود. هيكل باشا ظاهرة سياسية وفكرية وأدبية وصحفية يندر أن تتكرر، فقد حصل علي درجة الدكتوراة من جامعة السوربون بفرنسا، واشتغل بالمحاماة لمدة عشر سنوات وكذلك بالصحافة، كما أنه صاحب أول رواية مصرية هي «زينب» وكان عضوا في لجنة الثلاثين التي أعدت دستور 1923 - وأصبح رئيسًا لتحرير جريدة السياسة لسان حال حزب الأحرار الدستوريين، كما تولي وزارة المعارف أكثر من مرة ورئاسة مجلس الشيوخ. وحسب ما يقوله د. أحمد زكريا الشلق في تقديمه لهذه الطبعة الجديدة: «إننا أمام شخصية تاريخية بكل المقاييس، شخصية مركبة علي جانب كبير من الثراء والعطاء متعددة الأبعاد والأدوار، شغل مناصب مهمة في الصحافة والأحزاب والوزارات، مارس السياسة كتابة ونشاطًا علميًا لأكثر من عقود أربعة مهمة من تاريخ الوطن وباتت كتاباته تشكل شهادة نابضة علي هذا العصر بحكم ما شارك فيه بنصيب وافر وما شهده عن قرب من وقائع السياسة المصرية وأحداثها». ولعل القراءة الصافية لمذكرات هيكل باشا بكل وقائعها وأحداثها سوف تدفعك للدهشة والتعجب والحيرة ربما تتساءل في النهاية: ماذا جري لنا ولماذا جري وكيف جري؟! وربما كان بعض ما استوقف انتباه هيكل باشا قبل ستين سنة عندما صدرت الطبعة الأولي من كتابه (عن مكتبة النهضة المصرية) هو نفس ما يشغل با رجال الفكر والسياسة الآن، بل إن الحيرة والدهشة التي انتابت المجتمع وقتها هي نفسها التي تسكن العقول قبل القلوب هذه الأيام، وتجد صداها علي صفحات الصحف وشاشات الفضائيات. كتب د. هيكل باشا يقول عام 1951 يقول: «فمصر تتأرجح حتي اليوم بين العقليتين العربية والغربية، تتغلب أحداهما حينًا وتتغلب الثانية حينًا آخر، تنقلب العقلية الغربية حينًا فينهض الفكر الحر وتنتشر النظريات العلمية وتتأثر الثقافة بهما في المعاهد المختلفة، وفي المعاهد الدينية نفسها، وتتغلب العقلية العربية حينًا فتتحكم العاطفة ويسترد الماضي سلطانه وتتأثر الثقافة بهما في المعاهد المختلفة، وفي المعاهد الجامعية المدنية نفسها، وهذا التأرجح يحدث حينًا بعد حين، ويثير مناقشات حادة لها حتي اليوم أثرها الواضح في اتجاهاتنا العامة، ويرجو كثيرون أن يوفقوا إلي صيغة تؤدي إلي اندماج العقليتين ولكنهم لم يصلوا بعد إلي ما يريدون». ولعل خير مثل لذلك قضية كتاب قاسم أمين وما أثاره وقتها عندما صدر عام 1901 حيث يقول هيكل باشا: «كان ظهور هذا الكتاب - تحرير المرأة - حادثًا بل حادثًا خطيرًا، اضطربت له آراء الهيئات الدينية، واضطرت له كثير من المتعلمين أنفسهم، وأبدي الخديو «عباس» سخطه علي الكتاب وعلي مؤلفه حتي لقد أمر بأن لا يدخل «قاسم أمين» قصر عابدين مع ما كان له من رفعة المركز في القضاء ومع ما كان يتمتع به بين زملائه من كرامة واحترام، وقد نشر هذا الكتاب تباعًا أول ما نشر في جريدة «المؤيد» فكان لنشره دوي اضطرب له صاحب المؤيد «الشيخ علي يوسف» واضطر معه أن يفسح أعمدة جريدته للطاعنين علي الكتاب وصاحبه أشد المطاعن، علي أن الآراء التي حواها الكتاب أثارت من تطلع الشباب ما جعلهم يفكرون في الأمر جديًا، يري أكثرهم فيه مروقًا من الدين وتمهيدًا للالحاد ويري بعضهم أنه حق، وإنه الوسيلة الوحيدة لخلق شعب حر يدرك الحياة إدراكًا صحيحا، كما إنه العدل كل العدل الا تحرم المرأة من نور الحياة ومن نور العلم الذي يزيدها للحياة إدراكًا وتقديرًا صحيحًا». تجربة د. هيكل السياسية والصحفية تستحق مقالاً آخر.