ذكرنا من قبل خلال حلقات عديدة نشرت - ولا تزال - في جريدة «روزاليوسف عن ذكريات سفراء أمريكا في مصر التي قامت مكتبة الكونجرس الأمريكي بتوثيقها تحت عنوان «ذاكرة أمريكا» التي تحاول حفظ هذه الذاكرة للأجيال القادمة ليس فقط من جانب الدبلوماسيين الأمريكيين الذين خدموا في بلدان مختلفة ولكن من الكتاب والموسيقيين والرياضيين والرسامين وأعضاء الوزارات الأمريكية إلي آخرهم. جري الحديث مع السفير لوسيوس باتل عن تاريخ حيات خاصة خدمته في مصر متعرضاً إلي شبابه وكيف أنه نشأ في فلوريدا في العشرينيات من القرن الماضي وكان قارئاً نهماً يقرأ كل ما يقع تحت يديه والتحق بالمدارس الحكومية وعلم نفسه حيث قرأ تقريباً كل ما كانت تحتويه مكتبة المدرسة من كتب وشعر بسعادة غامرة من قراءتها بل وبدأ في قراءة عدد الأحد من جريدة النيويورك تايمز. ولمن لا يعرف قيمة هذا العدد الأسبوعي الذي يصدر حتي الآن عن هذه الجريدة العريقة كل يوم أحد، لا يدرك أن صفحاته تبلغ المئات وملحق به عدد مجلات وقراءته متعة للمثقفين وغير المثقفين، ففيه مثلاً أفضل ملحق علي الكتب الجديدة في أمريكا وغيرها وأفضل ملحق لاستعراض أحداث الأسبوع المنصرم أو المسرح والسينما الخ.. لن أتعرض هنا إلي هذه الجريدة العريقة التي تضم مجموعة من أفضل كتاب ومحللي العالم، لأن هذا المقال سيطول لأنني من المعجبين بها وعرفت بعض محرريها عندما عملت في الولاياتالمتحدة ونشرت لي عدة رسائل ترد علي مقالات تنتقد مصر دون مناسبة. كان باتل متفوقاً في دراسته وعاصر عهد الكساد الكبير في أمريكا خلال الثلاثينيات من القرن الماضي واضطر إلي العمل بجانب دراسته لكي يعول نفسه وهو تقليد أمريكي مستمر حتي الآن لمساعدة الأسرة ثم التحق بالبحرية الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية إذ كان مسئولاً عن القوافل البحرية في الباسيفكي لمواجهة الأسطول الياباني وعلم نفسه في البحرية حيث أصبح يتذكر اسم كل سفينة ومواصفاتها وتسليحها ومكان تواجدها. وخلال هذه الفترة قرأ الكثير عن الدبلوماسية والشئون الدولية لإيمانه كما يقول أن علي كل فرد أن يعمل كل جهده لتفادي نشوب حروب جديدة، ولذلك التحق فيما بعد بقسم الدراسات الدولية بجامعة فلوريدا، وشارك في مؤتمر استسلام اليابان وكان إلي جانب دين اتشسون عندما وقع علي الاتفاقية التي أبرمت مع اليابان والذي أصبح وزيراً للخارجية فيما بعد، وبعدها التحق باتل بالخارجية الأمريكية. لن نتعرض هنا إلي تاريخ لوسيوس باتل الدبلوماسي والمحطات التي عمل فيها ولكنه خدم عن قرب مع دين أتشسون كوزير للخارجية الذي كان يثق فيه ثقة كاملة حتي أنه هو الذي وافق علي زواجه من صديقته الدبلوماسية أيضاً وكان يصحبه معه لمقابلة زعماء العالم من تشرشل إلي شومان (فرنسا) أحد أصحاب فكرة الوحدة الأوروبية، ولكن يمكن القول علي أي حال إنه كان دبلوماسي بل وسياسياً محنكاً عاصر الكثير من الأحداث وكان قريباً من دائرة صنع القرار في واشنطن، ولذلك فإن حديثه وملاحظاته تفيد جداً في التعرف علي الأجواء التي كانت تسود الإدارة الأمريكية خاصة في فترة الانتقال من إدارة الرئيس ترومان إلي إدارة الرئيس إيزنهاور وموقف الأخير من العدوان الثلاثي علي مصر عام 1956 . قبل تعيينه سفيراً في القاهرة تولي السفير باتل منصب مساعد وزير الخارجية للشئون الثقافية وأمور اليونسكو، وكانت هناك صلة ربطته في ذلك الوقت مع عمله القادم في القاهرة ألا وهي انقاذ معابد أبو سمبل التي أبدت جاكلين كينيدي زوجة الرئيس كنيدي اهتماماً كبيراً بضرورة مساهمة الولاياتالمتحدة في انقاذ هذا الصرح التاريخي العظيم خاصة بعد النداء الذي وجهته مصر إلي المجتمع الدولي في هذا الصدد. كانت جاكلين كينيدي كما هو معروف مهتمة هي وزوجها الرئيس كنيدي بالأمور الثقافية كثيراً. يقول باتل حول هذا الموضوع إن مصر كانت من ضمن أكبر سبع دول في العالم تبيع لها واشنطن القمح الأمريكي وبدلاً من الدفع بالدولار فإنه كان يسمح لها بتسديد الثمن بالعملة المحلية ( الجنيه المصري) الذي يوضع في حساب خاص ينفق منه علي المشروعات المحلية التي تمولها الولاياتالمتحدة في هذا البلد في نطاق المساعدات الاقتصادية طبقاً لقانون أمريكي معروف برقم 480 PL في حلقة قادمة يحدثنا كيف رشح سفيراً بالقاهرة.