يقلب لورانس فينوتي في كتابه "اختفاء المترجم.. تاريخ للترجمة" الصادر مؤخرا عن الهيئة العامة للكتاب الهرم التقليدي الذي يجعل النص الأصلي في القمة والترجمة في القاع، يقيم ما يشبه الثورة علي وضع الترجمة الهامشي والمبهم والمزري، والأوصاف للمؤلف، وعلي وضع المترجم المعنوي والمادي وكأنه "كومبارس" يمثل دور الكاتب، لا يمجد النص المراد ترجمته ولا يري الترجمة نسخة غير كافية منه، بل يراه كنص "ترانزيت"، نص غير مستقر، لأنه من وجهة نظره حتي الروائع الكلاسيكية لا تحيا إلا في الترجمة. ويستخلص المترجم الإيطالي الأمريكي روشتته للتخلص من هذا الوضع في التوصية بتدريس الترجمة علي أنها تعطي معلومات عن النص الأصلي وليس باعتبارها تصويرا شفافا له، وأن يتم اعتبارها جزءاً حيوياً من مجالات التاريخ الثقافي وموضوعاً من موضوعات النقد. يتحدث المؤلف في الكتاب الذي ترجمته سمر طلبة المدرس المساعد في قسم اللغة الإنجليزية بآداب بني سويف وراجعه المترجم القدير د.محمد عناني، عن التغييرات العنيفة أو اللطيفة في لغة الترجمة التي يلجأ إليها عادة المترجم للإيهام بأن ترجمته نسخة شفافة من النص المترجم، وهذا النوع من المترجم هو ما يطلق عليه مصطلح "اختفاء المترجم"، لكن أستاذ الإنجليزية بجامعة تنبل ينحاز في كتابه إلي نوع آخر من المترجم يسميه "المتمرد"، الذي يتحدي قدراته ويخرج من دائرة الأعمال المركزية، ويختار نصا يعد في ثقافة اللغة التي يترجم إليها هامشيا، ويعتمد علي التجريب في ترجمته، وهو ما يسميه ب"الأمانة المسيئة"، ويتمسك فينوتي بنظريته تلك في الترجمة، حتي وإن كانت لها علاقة - كما يعترف هو - بالربط بين المترجم والمبشر! من ناحية أخري يسوق فينوتي مثالا بترجمة ريتشارد بيرتون ل"ألف ليلة وليلة" 1885، لتوضيح ما للترجمة من أثر أخلاقي، ويتجلي هذا في وصف إدوارد سعيد لترجمة بيرتون بأنها "سجل للاستشراق بكل معانيه وتجلياته"، والمؤلف إذ يتناول ترجمة هذا النص التراثي الجدلي إلي الإنجليزية لأول مرة، يحاول الوقوف علي الظروف والأحوال التي تحيط بالمترجم والتي يحاول إخفاءها في ترجمته، فلا تبدو أنه وقع في مأزق ما أو عاقه عارض، وقد كان الأمر في أشد حالات تعقيده عند ترجمة "الليالي"، فقد واجه بيرتون نفسه انتقادات من إنجلترا الفيكتورية علي الكم الهائل من الجرأة الفاضحة في الترجمة التي اختارها بيرتون أن تكون أمينة وغير مهذبة علي الإطلاق، علي عكس ما جاءت عليه ترجمة إدوارد سعيد نفسه ل"الليالي". إلا أنه بصفة عامة من وجهة نظر فينوتي، فإن التوجه الأيديولوجي الاستشراقي للمترجم والذي يثير الشكوك، هو في نفس الوقت توجه حميد، يؤكد فعالية ترجمة بيرتون ل"ألف ليلة" في نقض النفاق الأخلاقي، وعليه يري فينوتي أنه "لا ينبغي تجريم ألف ليلة علي أساس أخلاقي لأنها في إشاراتها الجنسية تشبه بواكير الآداب الحديثة التي تقدرها أوروبا جل التقدير". إن المنهج الذي يعاديه فينوتي في الترجمة هو ببساطة "سهولة الفهم مع الاحتفاظ للنص المترجم بمظهر من المصداقية" أو الترجمة ك"إحلال قسري لنص يفهمه قارئ اللغة المستهدفة"، ويلخص هذا المنهج في مصطلح "التقريب" أو الترجمة التقريبية، ويذهب فينوتي إلي أبعد من ذلك، باستخدامه وصف "عنف الترجمة" التي تصب جُل اهتمامها علي الدقة في التعبير وإن جاء علي حساب محاكاة الشكل والأسلوب، ويغيب معها الانفراد الأسلوبي للكاتب الذي يترجم له، ومن ثم كما يشرح فينوتي تختزل مهمة الترجمة في مجرد "التوصيل" وحسب، وتصبح نصا من الدرجة الثانية، ونموذجاً مقلداً، وربما زائفاً، "الترجمة كمشروع اغتصاب" أو"إفضاء بنص أجنبي" كما يصدمنا فينوتي. وفي المقابل يؤمن فينوتي ب"التغريب" في الترجمة، وتتجلي في أن يضفي مترجم شكسبير إلي الإيطالية مثلا مسحة "طلياني" علي أبطاله بحيث تصبح الترجمة قريبة من خيال القارئ الإيطالي، وهذا المذهب يعارضه تماما الدكتور عناني علي اعتبار أنه يصلح للترجمة بين اللغات الأوروبية التي تنتمي بصفة عامة إلي ثقافة متجانسة، أما هو فينحاز إلي الترجمة الأمينة الشفافة، ويقول دائما عن مشروعه في ترجمة أعمال شكسبير "سأظهره وكأنه كتب بالعربية أصلا".