الحروب الأهلية المصغرة التي يشهدها حاليا المجتمع المصري تمثل صورة لما أطلق عليه عالم الاجتماع الأمريكي الشهير روبرت بوتنام «التضامن المظلم»، حيث تنتظم مجموعات من الأفراد في مواجهة بعضها بعضا انطلاقا من شعور ذاتي بكراهية الآخرين، والرغبة في تحقيق انتصار عليهم. يختلف ذلك عن التضامن الايجابي حيث يتكامل المجتمع لتحقيق أهداف عامة، تخدم ما يعرف بالصالح العام. خذ مثالا علي ذلك ما يجري من مواجهة بين ما يعرف بالقضاء الواقف أي المحامين، والقضاء الجالس أي القضاة. حيث انتظمت كل مجموعة في مواجهة الطرف الآخر، ويطلق زعماء كل قبيلة منهما التهديد والوعيد للطرف الآخر، الأول يحتمي في قوته العددية والقدرة علي الحشد، والآخر يمتلك سلطة العقاب، وبينما يسعي الطرفان إلي تحقيق العدالة، أخشي أن يجري تسوية الأمر بينهما في النهاية في اتجاه لا يحقق العدالة أو يأتي علي غرار التسويات الطائفية المقيتة التي نشكو منها في الملف الطائفي، فما بالك لو انتقلت إلي ساحة القضاء. ما يجري هو صورة صادقة لما ذكره من قبل روبرت بوتنام عن رأس المال المظلم أو السلبي يجري الآن علي نطاق واسع في المجتمع المصري. الناس لا تتجمع من أجل تحقيق مصالح مهنية أو فئوية أو خاصة بل تتجمع من أجل مواجهة بعضها بعضا، ونسمع عبارات من قبيل «فشلت المباحثات« و«فشل الصلح بين الطرفين»، وكأننا نعيش في دولة قبائل تواجه بعضها بعضا بعيدا عن سلطة القانون، والغريب أن القائمين علي سلطة القانون في حالة نزاع واحتراب فيما بينهما. في السابق كنا نعرف أن هناك «تجمعات النواصي» التي تضم الشباب الذين يتسكعون علي زوايا الشارع، والأسر الممتدة التي يجري الدم في عروق رجالها بحثا عن الثأر والدمار، وأبناء الأحياء في مواجهة بعضهم بعضا، ولكن الجديد في الأمر أن تنتظم جماعات مهنية مهمة في مواجهة بعضها بعضا، ويعلو لغة بعضها في مواجهة «الأغيار» عبارات التهديد والوعيد. من سمات التضامن الايجابي أن يلتقي الناس حول مصالح تخدم الجميع، ويربط الأفراد علاقات من الثقة والاحترام المتبادل، ولكن في حالات التضامن السلبي يثور الناس علي بعضهم بعضا. وإن كان ذلك يحدث علي نطاق العصبيات القبلية، فكيف يحدث في العلاقات بين الجماعات المهنية التي ينهض علي أكتافها المجتمع الحديث. هكذا أري الخلاف الدائر حاليا بين المحامين والقضاة، هو خلاف ينقل النزعات الثأرية إلي ساحة العدالة، ويفت في عضد الدولة الحديثة التي لم يكتمل بناؤها بعد في المجتمع المصري. القضية ليست في اتهامات باعتداءات متبادلة، أو أن القضاة ثأروا لأنفسهم بحبس أثنين من المحامين بعد محاكمة استمرت ساعات، وليس لأن المحامين غاضبون، محتجون، بحثا عن كرامتهم الجريحة، كل ذلك جيد، ولكن القضية أن الجماعات المهنية الحديثة التي تبحث عن المصلحة والمهنة، التنوع والاختلاف، وقعت في محظور التضامن السلبي الذي يعاني منه المجتمع في دوائر أخري تقليدية: أسرية، دينية، مذهبية، مناطقية، الخ. هذا الخلاف يجب تسويته بما يتفق مع قواعد الدولة الحديثة، وإذا لم يحدث ذلك، وجرت تسويات عرفية لا معني لها، حتي لو قننت قانونيا، فإن الحادثة سوف تتكرر، واستعراض العضلات سوف ينتشر في المجتمع، والجماعات سوف تقوي علي حساب دولة القانون، وفي كل الأحوال سوف تنتصر الغلبة، ويتواري القانون.