بلاد كثيرة زرتها، أحبها إلي قلبي بريطانيا، وبالأخص مدينة «برايتون» الساحلية خلابة المناظر، حيث قضيت في جامعة «سكس» الكائنة بها التي درست بها الماجستير في التنمية السياسية. الأسبوع الماضي زرت لندن، ثم برايتون، وكانت فرصة للنظر في مشاهد التقدم والتخلف. في جامعة «سكس» هناك حركة دءوبة لا تهدأ من أجل التوسع، والبناء، والتناسق والجمال. في معهد دراسات التنمية حيث حصلت علي الماجستير، هناك العديد من البرامج التي أضيفت له مؤخرًا، لم يعد فقط يهتم بالتنمية بمعناها الضيق، ولكن هناك دراسات خاصة عن النوع الاجتماعي، والتغيير الاجتماعي، والحكم الرشيد، والعديد من المواقع الإلكترونية التي أطلقها تخدم قضايا بعينها. الحياة تبدو منظمة، الكل يعمل في هدوء، والإنتاج الفكري غزير في صورة كتب ودوريات علمية. الغريب أنه رغم كل مظاهر التقدم العلمي، هناك من الأساتذة من يشكو تردي الحال. حوار جمعني علي غداء مع اثنين من الأساتذة المرموقين في المعهد وجدتهما يسجلان ملاحظات نقدية، ويتطلعان إلي رؤية الأمور بشكل مختلف. عدت إلي التفكير في الجامعة المصرية، التي تكتظ بالطلاب والطالبات. رغم ما طرأ عليها في السنوات الأخيرة من تطوير محدود، معظمه بدعم خارجي، لا يوجد إنتاج علمي ملفت في هذه الجامعة. قضاياها محلية، وحتي في ذلك الإنتاج نمطي غير مبتكر في معظمه، وإذا اهتمت بقضايا إقليمية أو دولية تجد الإنتاج الأكاديمي بها ناقلاً، وليس مبتكرًا، يعيش علي ما انتجته الدوائر الأكاديمية الغربية من كتب ودوريات، مؤلفات ونقاشات، لا توجد بصمة لباحثين مصريين، أو حتي عرب في هذا الجدل العلمي إلا فيما ندر. ولا أريد تكرار ما يذكر دائمًا عن غياب أي جامعة مصرية عن التصنيفات العالمية لأفضل جامعات. ولكن التقدم والتخلف له بالنسبة لي معان مختلفة في ليالي «برايتون»، المدنية الساحلية الجميلة، تكثر السهرات والحفلات. لاحظت أن التقدم العلمي، والإنتاج الفكري المتقدم يرافقه حالة استهلاك إنساني ملفتة تسري في أوساط الشباب علي وجه الخصوص. هناك ارتفاع مضطرد في معدلات التدخين وتناول الكحوليات، والرغبة في استهلاك الجسد من أجل الاستمتاع شيء مخيف. تذكرت الكتابات التي تحدثت كثيرًا عن المجتمع الاستهلاكي، من أريك فروم إلي الكتاب العرب وأبرزهم مصطفي حجازي وكوستي بندلي وآخرون. كيف أن الاستهلاك تحول إلي «أيديولوجية» في المجتمعات، وكيف أنه صار عنوانا لحضارة جديدة، يطلق عليها البعض حضارة اللذة. هذه المجتمعات التي تقدمت علميا، تعاني من حالة بؤس إنساني. تطرق إلي هذه القضية عالم الاجتماع الأمريكي «روبرت بوتنام» حين ذكر أن المال الاجتماعي، أي الشعور بالثقة والتضامن والتعاون بين الناس في تآكل في المجتمع الأمريكي، رغم كل مظاهر التقدم العلمي والتكنولوجي، وتطور نوعية الحياة. لا أريد أن أعود إلي السجال العقيم الذي سار لسنوات حول الحضارة المادية في الغرب، والحضارة الروحية في الشرق. لأن كثيرًا من المظاهر التي انتقدها في المجتمعات الغربية عرفت طريقها إلي المجتمع الذي نعيش فيه ولكن بصورة مختلفة. الالتقاء الاجتماعي في حدوده الدنيا. انغماس الشباب الظاهر في اللذة في المجتمعات الغربية، يرافقه انغماس مماثل من جانب الشباب في مجتمعنا ولكن بصورة مستترة مع الحفاظ علي شكل ظاهري من التدين. في المجتمعات الغربية، التي ضربتها اللذة الاستهلاكية، الحياة منتظمة، والتقدم العلمي مستمر، والنظام صارم، والقانون مطبق. وفي المجتمعات التي نعيش فيها التي لايزال لديها فائض من التدين الحياة غير منتظمة، ولا يوجد إنتاج علمي جاد، والفوضي تدب جوانب الحياة، والقانون ليس مطبقا في كل الأحوال. لم أعد أعرف حقيقة ما معني التقدم والتخلف في المجتمع، كنت أظن أنه واضح بالنسبة لي لكني وجدته ملتبسا، ويزداد التباسا. هل التقدم أن ننتج علميا، ثم ننغمس في الاستهلاك البزخي؟ أم أن نتخلف علميا، ثم ننغمس في التدين الشكلي، وفريق منا يبحث عن اللذة الاستهلاكية في الخفاء؟ هل من المهم أن نتقدم، ثم يفعل الناس ما يحلو لهم حتي لو حساب مخزون المجتمع القيمي والإنساني، أم نظل علي تراجعنا في الوقت الذي نلزم فيه الناس علي الحفاظ علي مخزون القيم لديهم، ولو بالكرباج، وعصي المطوعين، وصحيات الدراويش، ونفير المتوعدين؟ القضايا متشابكة، وتحتاج إلي تفكيك، ولكن من نوع خاص.