لماذا يشارك مبارك في القمة الفرنسية الأفريقية؟ خمسون عامًا مضت، الجميع يحتفل الآن بأعياد الاستقلال الذهبية في كثير من بلدان أفريقيا الفرانكفونية.. ولكن هل تحررت أفريقيا حقًا.. وهل تريد أن تتحرر.. أم أنها تريد إعادة بناء العلاقة مع المستعمر السابق.. ومع من قد يكونون مستعمرين من نوع مختلف.. بدون بنادق ودبابات؟ أسئلة يجب أن نطرحها ونحن نتابع من (نيس) في جنوبفرنسا.. القمة الأفريقية الفرنسية التي تبدأ اليوم.. وهي أسئلة قد لا تبدو جذابة علي الإطلاق لقراء من الرأي العام المصري.. يريدون أن يسمعوا كلامًا مباشرًا حول العلاقات الأفريقية المصرية وتأثير هذا علي ملف المياه.. غير أن الواقع يقول إن إجابات الذكري الخمسين للاستقلال لها علاقة مباشرة بملف المياه المصري.. حتي إن بدا الأمر غير ذلك. قبل أن يتولي الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديجول مقاليد الحكم في عام 1958، فإنه توقع أن تؤدي الروح الثورية والاتجاهات الوطنية إلي نمو رغبات التحرر والاستقلال في أفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط.. ومن ثم فإنه راح يعرض علي المستعمرات الفرنسية في القارة السوداء أن تستقل مقابل أن تدفع لفرنسا الثمن.. وكان باهظًا. قبل خمسين عامًا عرض الفرنسيون علي الأفارقة السماح بتمركز للقوات الفرنسية علي أراضي بلدانهم، وتزويد فرنسا بكميات ثابتة من المواد الخام الأفريقية بأسعار محددة سلفًا، وقبول جميع ديون عهد الاستعمار الفرنسي بلا أي نقاش، والحفاظ علي الفرنك الأفريقي كعملة مشتركة، وإعطاء الخزانة الفرنسية حق الفيتو علي البنوك المركزية الأفريقية.. هذه كانت الطلبات.. وحين وافقوا للدقة رضخوا أعطاهم ديجول الاستقلال. وعلي الرغم من أن فرنسا تدخلت عسكريًا خلال نصف القرن الماضي في دول أفريقية كثيرة، من بينها: تشاد وكوت ديفوار، والكونغو، والجابون، وزائير، وأفريقيا الوسطي.. وعلي الرغم من أنها تتحمل كثيرًا من المسئوليات المتعلقة بالصمت علي التطهير العرقي المشين في رواندا عام 1994 . وعلي الرغم من أن الاشتراطات الاقتصادية لتنفيذ التحرر من الاستعمار طرأت عليها تغييرات كثيرة.. وعلي الرغم من الحرص الفرنسي علي انعقاد القمة الفرنسية الأفريقية بصفة دورية (نحن الآن في القمة رقم 25).. إلا أن مياهاً كثيرة جرت في القنوات.. وعديداً من الأمور تغيرت.. وأفريقيا لم تعد كما كانت .. والمستعمر الأبيض لم يعد أيضًا كما كان.. ولم يعد منفردًا في الساحة.. ينافسه الأصفر الهادئ.. والملون الرقيق.. والعثمانلي الباحث عن العقود الكبيرة. فرنسا لم تعد وحدها علي الساحة.. وكما أن هناك مؤتمر (أفريقيا فرنسا).. هناك آلية (الصين أفريقيا)، و(الهند أفريقيا)، و(تركيا أفريقيا)، وهناك شكل مماثل لدي اليابان حيث يهتم مؤتمر دوري بدعم اقتصاديات وتنمية الدول الأفريقية الأكثر فقرًا.. الجميع يخطب ود القارة السمراء.. بطرق مختلفة.. في ذات الوقت الذي أصبحت فيه فرنسا.. ذات العلاقة الوطيدة التاريخية بأفريقيا تتحسس خزان أموالها دائمًا.. فهي عليها استحقاقات متنوعة تجاه أفريقيا سواء في إطار عملية برشلونة أو في إطار الاتحاد من أجل المتوسط أو في إطار (أفريقيا فرنسا). التنافس علي الساحة السوداء أصبح مكلفًا جدًا، إن عليك أن تدفع، بالمعني الحميد.. أو غير الحميد فالفساد في كل مكان.. حتي لو كانت هناك عشرات من التصريحات تتحدث عن تطور وعن (حكم رشيد) في بعض البلدان.. وبعض الدول في حوض النيل رأت اللهاث الصحفي المصري وراء مسألة المياه.. فطلبت من مصر أن تقدم لها معونات قدرها مائة مليون دولار سنويًا.. وهو كلام يجسد (أضغاث أحلام).. أولاً لأن هذا رضوخ لابتزاز.. ويعني قبولنا بمبدأ تسعير المياه.. وثانيًا لأن هذه الأموال لو توافرت فأولي بها أن توجه إلي المواطن المصري وتنميته. الواقع اختلف، قوي العالم القديم كانت تنظر إلي أفريقيا باعتبارها منجماً يجب أن يتم احتلاله واستنزاف ما فيه من مواد خام واستعباد البشر الذين يسكنون حوله، الآن وبعد عقود من التحرر. وارتفاع معدلات النمو السكاني.. فإن قوي أخري في العالم رأت أن عليها أن تستفيد من بقايا المنجم الأسود.. لاسيما أنه إلي جانبه ظهرت بئر بترول رهيبة المخزون.. وأن تستفيد من أفريقيا باعتبارها سوقاً ضخمة.. يمكن أن تستوعب الكثير من المنتجات.. وساحة للفرص مع ارتفاع متطلبات التنمية والاحتياج الشديد إليها. وبخلاف ذلك تعتمل في مختلف دول القارة التفاعلات الديمقراطية.. ويرتفع الطلب علي الحرية الداخلية.. بعد خمسين عاما من التحرر من المستعمر الخارجي.. في ذات الوقت التي تتزايد فيه النزاعات القومية التي يستثمرها قادة أفارقة مختلفون ليصدروها خارج بلدانهم بهدف تفجير الطاقة بعيدا وخارج الحدود.. واستجلابا لمزيد من الأموال والفرص المتخيلة. الاستعمار القديم خلق في نفس المواطن الأفريقي الحر إحساساً بالقهر والظلم.. وحين تحرر فإن رغبته في التعويض-مع ضغوط الفقر- خلقت في داخله عوامل نفعية مذهلة.. بمعني أنه يريد أن يحصل علي مقابل كل شيء.. حتي يحمي نفسه من أي إحساس جديد بالظلم.. وهذا تنامي مع شعوره بأن الجميع يتنافس عليه.. ويخطب وده.. ويريد نصيبا في ملعبه. مصر، تحضر القمة الأفريقية الفرنسية.. بمنطق مختلف.. بحرص متزايد من الرئيس علي أن يتواجد في هذه المحافل المتميزة التي تمد الجسور مع مختلف القوي في مختلف الأقاليم.. ما سوف يتصاعد حين تستضيف مصر القمة المقبلة.. كما سيعلن الرئيس مبارك في كلمته صباح اليوم في «نيس».. وتحضرها رغبة في أن تكون شريكا في كل عمليات التفاعل الممكنة مع القارة التي تحتل «أي مصر» موقعا ومكانة مميزة فيها.. وتحضرها في إطار العلاقة المصرية- الفرنسية ذات المواصفات الخاصة التي تعتبر نموذجا للعلاقات الناجحة عبر جانبي المتوسط. [email protected] www.abkamal.net