لا تستطيع وأنت جالس في قاعة المؤتمرات الكبري في مبني أكروبوليس في قلب مدينة نيس الفرنسية, حيث عقدت القمة الإفريقية الفرنسية الأخيرة, إلا أن تفكر في الذي يجري في أفريقيا من سباق بين الأمم. والحقيقة أنني لم أكن أبدا متخصصا في أفريقيا, ولسبب لا أعرفه فإنه لم تسعدني الأقدار أبدا بزيارة بلد أفريقي جنوب الصحراء الكبري, ومع ذلك فقد كنت أحفظ دائما عن ظهر قلب أن الدائرة الأفريقية واحدة من ثلاث دوائر مهمة للسياسة الخارجية المصرية والأمن القومي المصري مع دائرة أخري عربية وثالثة إسلامية. وبرغم أن الواقع كثيرا ما دفع إلي الساحة دوائر أخري أوروبية وأمريكية وآسيوية أحيانا, فإن الدوائر الثلاث هي التي وقرت في العقل والضمير المصري ولدي الساسة ورجال الفكر, وكانت لأفريقيا أهمية خاصة حيث ينبع شريان الحياة إلي مصر مع نهر النيل, فضلا عن الأصل الحامي الذي تكونت منه الدماء المصرية في فجر التاريخ حتي جاءت دماء سامية أخري لتختلط فيما بينها وتخلق سمات مصر الخاصة. وعندما جلست في القاعة الكبري للصحفيين, ورغم أن نصيب الصحافة كان الصفوف الأخيرة للقاعة الكبري التي ألقي فيها الرئيسان الفرنسي نيكولا ساركوزي والمصري حسني مبارك كلمات الافتتاح للقمة الفرنسية الأفريقية, فإن المشهد كان شاملا لأفريقيا كلها علي جانب وفرنسا الدولة في جانب آخر. وكأن ساركوزي كان يقرأ ما في عقلي وعقل الكثيرين, فكان جل خطابه هو أن ما نحن بصدده ليس علاقة استعمارية جديدة وإنما نوع ما من المشاركة في مصالح مشتركة. وكأن الرئيس مبارك بدوره التقط الخيط, حين أكد أن علاقات الدول القائمة علي المشاركة لابد أن تقوم علي قواعد مؤسسية تعرف كل الأطراف أولها من آخرها, ويكون لها مواقيتها ومواعيدها ومجالاتها المحددة والمعروفة. وهكذا دار الكلام أثناء القمة وظهر في تلك البقعة الجميلة من بقاع الأرض أن فرنسا أيا كانت المسميات تريد مكانا في القارة السمراء. ولو كان ما جري في مدينة نيس الساحرة قد حدث منذ سنوات قليلة مضت لتعجبت كثيرا, فأحوال قارتنا لم تكن تسر لا عدوا ولا حبيبا كما يقول المثل الشائع, فالفقر ينخر في عظامها, والفساد يضرب في دمها, والعنف والحروب الأهلية تمزق لحمها, ومواردها وثرواتها لم تعد تحتاج لمن يسرقها; فهي إما ضاعت قيمتها فباتت تباع بأثمان رخيصة, وإما أن الشركات وعصابات المافيا الدولية بأنواعها المختلفة باتت تحصل علي ما تريد دون استعمار أو جيوش غازية لها تكلفتها الغالية من المال والسمعة. وببساطة لم يكن هناك في أفريقيا ما يغري بالقدوم إليها, ولم يكن المرء يحتاج إلا مراقبة للحرب التي لا تنتهي في الصومال, ومثلها التي اختلطت فيها الملهاة بالمأساة في ليبيريا, فضلا عن القسوة المتناهية التي جرت بها المذابح في رواندا وبورندي والكونغو, وأشكال التمرد والحرب الأهلية في السودان وساحل العاج وأوغندا, والحروب والخلافات الجارية بين أثيوبيا وإريتريا, وهكذا لم يكن في سمعة أفريقيا ما يغري بالقدوم والاستثمار وخلق مناطق النفوذ. وببساطة أكثر كان في العالم مناطق أكثر إغراء من هذه القارة الكارثية, حيث كانت أوروبا الشرقية, ومن قلدوها في تركيا ودول الاتحاد السوفيتي السابقة تبحث عن المال والفرص والاستثمار, وكانت أمريكا الجنوبية قد استقرت في معظمها علي الديمقراطية والرأسمالية ففتحت أبوابها, أما آسيا وفي المقدمة منها الصين والهند فقد دخلتا في سباق رهيب علي التقدم الذي لا تقطعه قضية خارجية, ولا تعبث به تيارات فكرية صاخبة. لماذا إذن بعد كل ذلك يجري السباق علي أفريقيا بمثل هذا الحماس والزخم, بحيث تشهد القارة الأفريقية تسابقا محموما من جانب القوي الكبري التي بدأت تشن غزوات متتالية مستغلة سلاح الاستثمار والمنح والقروض. وتعتبر الصين أحد أهم الشركاء التجاريين للقارة الأفريقية الآن, حيث اعتمدت بكين في سبيل النفاذ إلي أفريقيا علي ما يسمي ب القوة الناعمة من خلال العزوف عن سياسة إعطاء دروس للأفارقة مقابل مساعدتهم, والتحول من التركيز علي المساعدات الاقتصادية والتعاون التكنولوجي إلي الاستثمار والتنمية. وطبقا للأرقام الصينية الرسمية فقد ارتفعت الاستثمارات الصينية المباشرة في إفريقيا من491 مليون دولار في2003 إلي نحو8 مليارات دولار في نهاية2008, أما عن حجم التبادل التجاري بين الصين وأفريقيا فقد وصل حاليا إلي109 مليارات دولار. كما دعمت الصين تأسيس منتدي التعاون الصيني الأفريقي في عام2000, وهو ملتقي متعدد الأطراف للتشاور وتعميق التعاون بين الأطراف المشاركة فيه, وتعقد قمته كل ثلاث سنوات. وتعتبر الهند إحدي أهم القوي الاقتصادية التي بدأت في الاهتمام بالاستثمار في القارة الأفريقية ومنافسة الصين علي السوق الأفريقية. وتشير التقديرات إلي أن حجم التبادل التجاري بين الهند وأفريقيا وصل إلي45 مليار دولار خلال عام2010, ويتوقع أن يقفز إلي55 مليار دولار في غضون عامين وإلي70 مليار دولار خلال5 أعوام. ويمثل نجاح شركة بهارتي آيرتل الهندية في الفوز بصفقة شراء الأصول الأفريقية لشركة الاتصالات الكويتية زين باستثناء الموجودة في كل من المغرب والسودان التي قدرت ب10.7 مليار دولار دليلا علي قوة الدور الاقتصادي للهند في أفريقيا, وقد رفعت هذه الصفقة الكبري من حجم الاستثمارات الهندية في أفريقيا إلي16.7 مليار دولار, ووضعت الهند ضمن قائمة أكبر10 دول مستثمرة في أفريقيا. وتبدي الولاياتالمتحدةالأمريكية بدورها اهتماما خاصا بأفريقيا جنوب الصحراء, وهو ما عكسه توقيع الرئيس الأمريكي الأسبق بل كلينتون علي قانون الفرص والنمو في أفريقيا المعروف باسم أجوا(TheAfricanGrowthandOpportunityAct) في مايو2000 بهدف تفعيل التعاون التجاري مع أفريقيا. وتستفيد38 دولة أفريقية من مزايا هذا القانون, الذي يوفر أفضليات تجارية كبيرة. ووفقا للقانون, فإن الكونجرس يطلب تقريرا سنويا من الرئيس الأمريكي يتضمن الدول التي استطاعت استيفاء الشروط والاعتبارات التي يضعها قانون أجوا للسماح لها بالتمتع بامتيازاته. كما تقوم الولاياتالمتحدة بإدارة أربعة مراكز تجارية إقليمية وتنافسية في غانا والسنغال وبوتسوانا وكينيا, تهدف إلي تعزيز التبادل التجاري بين الولاياتالمتحدة وهذه الدول. وقد نجح مركز كينيا علي سبيل المثال في توفير صادرات تزيد قيمتها علي14 مليون دولار لمؤسسات تجارية في شرق أفريقيا. وقد ارتفع حجم التبادل التجاري بين الولاياتالمتحدة وأفريقيا جنوب الصحراء بنسبة28% عام2008 ليصل إلي104.8 مليار دولار, وفقا لتقرير اتجاهات التبادل التجاري بين الولاياتالمتحدة وأفريقيا الذي أعدته وزارة التجارة الأمريكية, كما كشف التقرير عن ارتفاع الصادرات الأمريكية بمقدار29%, حيث بلغت18.6 مليار دولار, كما ارتفعت واردات الولاياتالمتحدة في عام2008 بنسبة27.8% لتصل إلي86.1 مليار دولار. ولا يقتصر الاهتمام الأمريكي بالقارة الأفريقية علي النواحي الاقتصادية فقط, بل تجاوز ذلك ليمتد إلي المجال العسكري, فقد أسست الولاياتالمتحدة القيادة العسكرية الخاصة بأفريقيا المعروفة اختصارا ب أفريكوم(Africom) في أكتوبر عام2008, وتركزت أهدافها حول محاربة الإرهاب, وحماية المصالح الأمريكية في القارة, ومواجهة النفوذ الصيني المتصاعد داخلها, ومن المتوقع أن تمنح القيادة الجديدة مزيدا من الفاعلية للولايات المتحدة لمواجهة الأزمات المحتملة في القارة وتقليص تداعياتها المحتملة علي مصالحها. وتبدو اليابان إحدي أهم القوي الاقتصادية المهتمة بتدعيم علاقاتها مع الدول الأفريقية. فاليابان هي الدولة الأولي في تقديم منح لحوالي30 دولة أفريقية خصوصا كينيا والجابون وزامبيا وملاوي ونيجيريا, بقيمة19 مليار دولار تقريبا. وقد أسست اليابان منتدي طوكيو الدولي للتنمية في أفريقيا التيكاد في عام1993, وعقد المؤتمر دورته الرابعة في الفترة من29 إلي31 مايو عام2008, حضره2500 مشارك من حوالي40 دولة أفريقية, وقد تعهدت اليابان بمضاعفة حجم استثماراتها الخارجية المباشرة بأفريقيا حتي عام2011 لتصل إلي3.4 مليار دولار بدلا من1.7 مليار دولار. إلي جانب هذه القوي, ثمة قوي اقتصادية أخري طامحة إلي النفاذ داخل القارة الأفريقية, إذ تواصل تركيا تدعيم علاقاتها مع أفريقيا, حيث نظمت منتدي العمل التركي الأفريقي في اسطنبول في أغسطس2008, تم خلاله التوقيع علي اتفاقيات استثمارية بقيمة220 مليون دولار معظمها في مجال الطاقة. وقد وصل حجم التبادل التجاري بين تركيا وأفريقيا إلي أكثر من13 مليار دولار, ويطمح المسئولون الأتراك في أن يصل إلي30 مليارا خلال المرحلة المقبلة. كذلك تبدو إسرائيل مهتمة بتدعيم تعاونها مع القارة الأفريقية, ورغم اختلاف التقديرات حول حجم التبادل التجاري بين إسرائيل وأفريقيا, إلا أن معظمها يؤكد أنه تجاوز حاجز ال2 مليار دولار. وقد عكست الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الإسرائيلي أفيجدور ليبرمان إلي إثيوبيا, وكينيا, وغانا, ونيجيريا, وأوغندا, في سبتمبر2009, مدي اهتمام إسرائيل بتطوير التعاون مع دول القارة الأفريقية, حيث تضمنت الزيارة تدشين فعاليات اقتصادية مشتركة مع هذه الدول, وتوقيع اتفاقيات لتدعيم التعاون في مجالات مختلفة كالزراعة والصحة والتعليم. أما بالنسبة لإيران, فتشير بعض التقديرات إلي أن حجم التبادل التجاري الحالي بينها وبين دول القارة الأفريقية يصل إلي حوالي300 مليون دولار من المرجح أن تزيد خلال المرحلة المقبلة. وفرض النفوذ الذي بدأت تحظي به العديد من القوي الاقتصادية العالمية لاسيما الصين في القارة الأفريقية تحديات كبيرة أمام بعض القوي الأوروبية التي كانت تعتقد أن روابطها التاريخية مع مستعمراتها القديمة سوف تساعدها علي الاحتفاظ بمستوي جيد من العلاقات. ورغم أن هذه الحقيقة اكتسبت وجاهة خاصة حتي منتصف التسعينيات من القرن الماضي, حيث كانت الشركات الفرنسية تهيمن علي أكثر من نصف صفقات التسويق في المستعمرات الفرنسية السابقة, فإنها واجهت مشكلة حقيقية خصوصا بعد انتهاء الحرب الباردة, حيث تقلص نفوذ هذه الشركات تدريجيا لصالح شركات من دول أخري. هذا السباق المحموم علي أفريقيا يرجع إلي شيوع انطباعات متفائلة بالنسبة لمستقبل القارة. فالمؤشرات تؤكد أن أفريقيا في طريقها إلي تحقيق نوع من الاستقرار والبعد عن الفوضي, الذي يعد الشرط الأساسي لتوافر بيئة جاذبة للاستثمارات الأجنبية. فعلي خلفية الجهود الحثيثة التي بذلتها بعض المنظمات الدولية كالأممالمتحدة والبنك الدولي وغيرهما, بدأت بعض الدول الأفريقية التي عانت في السابق من الحروب الأهلية مثل أنجولا, وساحل العاج, وأوغندا, وليبيريا, ورواندا, وبوروندي, في التوجه نحو التنمية الاجتماعية والاقتصادية, وتقليص معدلات الفقر, ونبذ العنف والتوتر, ودعم خطوات السلام الاجتماعي. واللافت للانتباه في هذا السياق, هو أن معدلات النمو التي حققتها العديد من دول القارة تبقي الأكبر منذ نحو أربعين عاما, فضلا عن أن بعضها نجح في انتهاج سياسات مالية متميزة وإقامة بنية تحتية علي مستوي جيد, وتدريب الكوادر الوطنية علي التكنولوجيا الحديثة. وبرغم الأزمة المالية التي اجتاحت العالم في الفترة الماضية, فإن القارة نجحت في جذب88 مليار دولار استثمارات مباشرة عام2009, ودخلت في أنشطة استثمارية عديدة خصوصا في قطاع الطاقة والزراعة وصيد الأسماك وغيرها. وثمة مؤشران يؤكدان أن الصورة السوداوية التي اتسمت بها القارة في السابق لم تعد كما هي: أولهما, ارتفاع معدل استهلاك البضائع والخدمات خلال الأعوام الأربعة الأخيرة الذي مثل ثلثي النمو في الناتج المحلي الإجمالي في القارة. وثانيهما, ظهور توقعات بتزايد عدد أفراد الطبقة الوسطي في أفريقيا إلي300 مليون شخص, من مجموع مليار شخص هم سكان القارة. إلي جانب ذلك, فإن القارة تحظي بالعديد من المميزات الإستراتيجية والطبيعية. فأفريقيا غنية بالمعادن مثل الذهب, والكوبالت, والماس, والفوسفات. ووفقا لبعض الإحصاءات, يوجد في أفريقيا نحو10% من الاحتياطي العالمي من النفط الخام. لكن ذلك في مجمله لا يعني أن الوضع أصبح ورديا في القارة. إذ أن ثمة تحديات عديدة أمامها لتحقيق مستقبل أفضل: أولها, استمرار النزاعات المسلحة في القارة, حيث ما زال بعضها يعيش عصر الانقلابات العسكرية مثل النيجر التي شهدت انقلابا عسكريا في فبراير2010, وغينيا الإستوائية التي اغتيل رئيسها في مارس2009 من قبل مجموعة من الجنود, وغينيا كوناكري التي شهدت فوضي بعد وفاة رئيسها في ديسمبر2008 حيث استولت مجموعة عسكرية علي السلطة, وموريتانيا التي شهدت انقلابا عسكريا في أغسطس2008 وثانيها, استمرار الحروب الأهلية في بعض الدول التي عكست في بعض جوانبها صراعا علي الثروة بجانب عامل الانقسامات العرقية. وليس أدل علي ذلك من أن ثلاثا من الدول الست المنتجة للماس تعاني حروبا أهلية طاحنة. فقد خلفت الحرب الأهلية في الكونغو الديمقراطية أكثر من أربعة ملايين ضحية, وسقط في مستنقعها ثماني دول أخري, فيما خلفت الحرب في سيراليون50 ألف قتيل, وذهب ضحية الحرب في ليبيريا نحو200 ألف. وثالثها, انتشار ظواهر التصحر والمجاعة التي تؤدي إلي حدوث هجرة جماعية, فضلا عن الأمراض المتوطنة مثل الملاريا والسل والجفاف الذي يهدد حياة2.7 مليون في النيجر علي سبيل المثال, إلي جانب استمرار معدلات الفقر عند مستويات عالية, حيث يعيش44% من سكان المناطق جنوب الصحراء بأقل من دولار واحد يوميا. ورابعها, الصعوبات التي تحول دون تمويل مشروعات البنية التحتية داخل القارة التي تحتاج إلي93 مليار دولار سنويا, في حين أن الاستثمار الأفريقي لا يمثل أكثر من15% من الناتج المحلي الإجمالي. والخلاصة أن السباق علي أفريقيا يحمل في جوهره أمرين: استغلال الفرص المتاحة في القارة حتي تستكمل الدنيا كلها دوائر نموها, بحيث لا تبقي قارة بعيدة عن السوق العالمية الواسعة. والآخر توقي الشرور التي تأتي من تدهور الأحوال والتي تترجم نفسها إلي مشاهد بشعة لم يعد ضمير العالم يحتملها من جانب, وإلي موجات من الهجرة التي لا تترك مكانا متقدما إلا ذهبت إليه بحثا عن الثروة والأمان. وببساطة فإن الدول الكبري تدرك أنه فضلا عن الفرص المتاحة فإنه ما لم تذهب هي إلي أفريقيا فإن شعب أفريقيا سوف يذهب إليها حاملا مشاكله وهمومه. ربما كانت تلك هي المسألة ؟!.