تعبت من الكتب والكتاب، أتخمت بالحروف، الأفكار المعجونة سدت كل القنوات في عقلي. لا مفر من الحصول علي الحكمة من منابعها الأصلية، من الشارع، تماما كما كان يفعل سقراط. كان سقراط أعظم فلاسفة التاريخ ينزل إلي الأسواق موجها أسئلته للناس طارحا أفكاره علي الجميع لكي يحصل علي إجابات تساعده علي إقامة بنائه الفلسفي، لماذا لا أفعل ذلك أنا أيضا؟ وصلت لقرار، وأنا مثلك تماما، عندما أتخذ قرارا بفعل شيء فأنا في الغالب لا أفعله مكتفيا ككل البشر بتخيل أنني قد انتهيت من فعله. في الصباح الباكر، راسما علي وجهي ابتسامة فلسفية جادة وحكيمة، اقتربت من مجموعة من البشر يقفون علي محطة الأتوبيس، وإلي أقرب الواقفين بدأت بالسؤال الذي كان سقراط مغرما بتوجيهه.. ما هي الشجاعة؟ نظر إلي الرجل في خوف ودهشة ثم ابتعد عدة خطوات متجاهلا السؤال ومتجاهلا وجودي، لا بأس.. هو رجل يفتقر إلي الحس الفلسفي الكافي للإجابة عن السؤال، أو لعلي بدأت بسؤال صعب. اقتربت من ريفي تمتلئ ملامحه بالطيبة، قلت له في تهذيب: من فضلك يا عم.. ما هي الحياة؟ أجاب الرجل في لطف: عفوا يا ابني.. أنا غريب، لست من هذه الناحية. تدخل أحد الموجودين: صيدلية الحياة لا تفتح أبوابها قبل العاشرة صباحا، وهي تقع في الناحية الثانية في هذا الشارع.. علي اليمين. لست أسأل عن صيدلية الحياة، إنني أقصد الحياة نفسها. : مالها..؟ ما هي..؟ نظر إلي في شك ثم ابتعد دون إجابة، مرت لحظات قبل أن أسمعه يهمس في أذن زميله: تلاقيه مخبر. المرأة هي أقرب المخلوقات إلي الحكمة، اقتربت من سيدة في حوالي الأربعين من عمرها تتسم ببعض الجمال. سيدتي.. ما هي الحياة؟ : اصطبح يا افندي علي الصبح.. تحولت السيدة في لحظة إلي وحش كاسر، أسعدني ذلك، لا شيء في الوجود قادر علي ترويض الوحوش مثل الفلسفة، هذه هي ضالتي المنشودة، علي أن أواصل معها بنفس المنهج السقراطي القديم. صرخت السيدة: إبعد عني وروح في ستين داهية.. بدأت الفلسفة تؤتي ثمارها، فقد أخذ الناس في التجمع حولنا، قدمت عدة أتوبيسات فلم يركبها أحد، استلفت المشهد أنظار ركاب الأتوبيسات المارة فنزلوا جميعا يتفرجون علي ما يحدث. وبدأت التعليقات من الجميع.. حمدا لله، لقد نجحت أخيرا في الحصول علي مشاركتهم الإيجابية. أفندي قليل الأدب.. أنا مراقبه من الأول.. بيعاكسها بقي له ساعة.. لأ.. ده بيعاكسها من ساعة ما خرجت من بيتها.. إيه اللي حصل للأخلاق في البلد دي؟ أعجبني السؤال.. إن طريق الحكمة يبدأ بطرح الأسئلة. لا أستطيع أن أرصد بالضبط تلك اللحظة التي انتقلت فيها الجماهير من التعليقات الفلسفية الهادئة المشحونة بالغضب الإنساني الشرعي الطبيعي إلي الفعل الواضح المحسوس والملموس. تمنيت كثيرا أن يكون معنا في هذا اللقاء أكبر عدد من القادة السياسيين ليروا علي الطبيعة كيف تتم إثارة خيال الجماهير ودفعها للفعل الواضح بواسطة الأسئلة الفلسفية. في اللحظات القليلة التي سبقت الإغماء العميق الذي رحت فيه، استطعت بصعوبة التعرف علي ما يحدث، كانوا جميعا يضربون ويصرخون في سعادة غامرة، الشارع كله ثم كل الشوارع، كل سكان العاصمة، ثم كل سكان كل العواصم، والمدن الصغيرة، والقري، والنجوع، والمواني، وسكان البادية، لم يكتفوا بالقدوم من الحاضر، جاء أناس من الماضي لينعموا بضربي، كما جاء أناس من المستقبل.. يا إلهي، كيف تحملت وأتحمل كل هذا الضرب؟