في القرن الرابع قبل الميلاد وفي اثينا كان سقراط فيلسوفا يجتمع حوله التلاميذ الذين سيكون منهم فلاسفة فيما بعد وعلي رأسهم أفلاطون الذي ترك لنا أكثر من كتاب هي محاورات مع سقراط وتلاميذه حول أفكار كبري مثل الجمال والحق والخير وخلود النفس وغيرها من القضايا الفلسفية. في ذلك الوقت امتلأت اليونان بالفلاسفة السفسطائيين الذين ملأوا البلاد بالشك فلا حقيقة مطلقة وكل شيء نسبي فالحق ليس موجودا بذاته لكنه يخضع لوضع طالبه فالغني ينتزع الحق الذي يكون بالنسبة للفقير هو الظلم وحرية الحاكم هي عبودية الرعية وهكذا. كانت هذه الأفكار قد بدأت بزعزعة نفوذ حكام اليونان ولم يكن أحد بقادر علي مواجهتها مثل سقراط الذي جعل العقل لواءه في التفكير ومن العقل تتوالد المعاني مترابطة لا يمكن زعزعتها لأنها في النهاية مقنعة لكل من يفكر ومتراتبة في نسق عقلي قوي ومن ثم يمكن تعريف الحقائق الكبري مثل الخير والحق والجمال والخلود وغيرها بأفكار لا تقبل النقاش لأنها تعتمد علي العقل الذي من الصعب زعزعته باعتبار قوة المنطق واتساقه وعليه فالأمور في الحياة ليست نسبية إلا في الحاجات الصغري لكن القيم الكبري ليست نسبية بل صالحة لكل مكان وزمان. كانت أفكار السفسطائيين كفيلة بإحداث الثورات في البلاد فما دامت النسبية هي الحقيقة المطلقة فكل ما يفعله الحكام والأقوياء لا يروق لي ومن ثم يمكن مقاومته.وكانت بابا للفوضي العارمة لأنه امامها ستقف القوانين عاجزة عن الثواب والعقاب.صار سقراط بما له من قدرة عقلية جبارة هو المفكر الذي يستطيع دحض دعاوي السفسطائيين وإعادة البلاد إلي الطريق الصحيح واتيح له المكان والتلاميذ وانتشرت أفكاره ووجدت صدي كبيرًا في بلاد اليونان وأصبحت مدرسة سقراط هي المركز المشع بالعقل في كل الأرجاء وشيئا فشيئا ضعفت افكار السفسطائيين وبهتت وكادت تنتهي من البلاد وهنا ظهرت زوجته التي اتهمته بالفحش والفجور والشذوذ الجنسي مع شباب المدرسة وهو اتهام لا يرتب عقابا كبيرا اللهم الا الفضيحة لكن الدولة الاثينية التي لم تعد في حاجة إلي سقراط بعد أن استقرت احوال البلاد وجدت الوقت مناسبا للتخلص منه بعد أن صار مرجعا أكبر في الفكر فاتهمته بالسفسطة. أجل السفسطة ولا شيء آخر لأنه ببساطة كل الأفكار التي يقرها العقل يمكن أن يقر عكسها أيضا بأدلة وبراهين أخري وحكم علي سقراط بالموت بالسم وانتهي الأمر وتخلصت اثينا من الأفكار الواقعية للسوفسطائيين والأفكار العقلية لسقراط. هذا درس قديم جدًا من دولة رفعت شعار الديمقراطية لكنها كانت دولة تقوم اقتصاديا علي نظام عبودي ومن ثم لن تسمح بعدم الاستقرار، وهو درس يعكس العلاقة الشائكة بين المثقف والسلطة وهو درس يقول بوضوح إنه لا أمان للسلطة في أي زمان ومكان ورغم ذلك لم يتعظ به أحد لعدة أسباب اهمها أن جاه السلطة شديد الإغراء وأهمها ولعله الأهم فعلا أن المثقف قد لا يجد طريقا آخر أسهل وأوسع من طريق السلطة لنشر أفكاره وفي حالة سقراط لم يكن الرجل عميلا للسلطة لكنه كان بالفعل مؤمنا بما يقول. هذا الإلحاح الروحي علي المثقف لنشر أفكاره بطريقة أسهل وأسرع هو حق للمثقف لكنه حق يضل طريقه في المجتمعات والنظم الديكتاتورية ويدفع المثقف ثمنه في النهاية بينما هو في النظم الديمقراطية في الغالب لا يرتب أي أعباء علي المثقف لأنه يستطيع نشر أفكاره في قنوات أخري كثيرة غير حكومية وفي النظم الديمقراطية عموما ما أقل القنوات والطرق الحكومية وربما لا توجد بالمرة. وهذا الدرس يرتب المثقفين في النظم الشمولية علي الانتباه لكنهم علي الأغلب لا ينتبهون بسبب ما قلته من رغبة المثقف في نشر أفكاره وفي هذه الحالة يكون المثقف صاحب افكار حقا ولا يدخل في هذا الحديث الأقل أفكارا أو الذين يتصورون أن الثقافة هي في الدفاع عمال علي بطال عن النظم. وأصحاب الموقف الأول هم الذين يكون الثمن الذي يدفعونه فادحا لأنهم في لحظة دفع الثمن سيشعرون بالغبن من النظم التي تخلت عنهم فيصرخون بالاحتجاج علي هذه النظم فيؤكدون بصراخهم انهم كانوا يفعلون ما يفعلون ليس لرغبتهم الملحة روحيا لنشر أفكارهم ولكن لارتباطهم الوثيق بالنظم وهنا سيقول أعداؤهم انظروا لم يكونوا مفكرين أحراراً بل كانوا من رجال السلطة وسيبتعد الناس عنهم وعن أفكارهم رغم انها لم تكن كذلك. ينتهي المثقف وتهمل كتبه ولا يصدقها أحد وهكذا يكون الغبن مرتين. هل ألتمس عذرا للمثقف هنا؟ ربما. ولكن هل يمكن للمثقف أن يجد لنفسه طريقا آخر؟ يمكن إذا أراد، وفي عصرنا يمكن له أن يجد عشرات الطرق لنشر أفكاره بعيدا عن مظلة اي دولة، لكن أهم ما يفعله أن يتخلي عن أي منصب حكومي مؤثر في دنيا الثقافة. ساعتها فقط لن يجد الشك طريقا عند أحد فيما يكتبه ولن تعجز الدولة عن البحث عن مثقفين آخرين لاحتلال منصبه.أجل الجمع بين الثقافة والمنصب هو المدخل الأكبر للهجوم علي أي مثقف ويزداد هذا الأمر حين يكون للمنصب مكاسبه الشخصية الكبري من جهة المال والنفوذ. هذا يدفع المثقف اكثر إلي الثقة فيما يكتبه خالطا بين وضعه الوظيفي المرموق وبين كتاباته فكتاباته أمام نفسه لا تقل عن وضعه المرموق وحبذا لو تدر عليه أموالا كبيرة وتجعله موجودا في كل المؤتمرات والمجلات واللجان والمجالس الفكرية ولا ينتبه أبدًا إلي أن هذا الوضع الثقافي المرموق هو ابن للوضع الوظيفي المرموق وأنه هو المدخل للابتعاد عما يكتب وأنه، هذا الوضع المرموق، هو كعب أخيل ففي لحظة تتركه السلطة إلي الأعداء فيضيع المنصب والكتابة معا.