من أكثر أنواع الأدب التي جذبتني في صباي وجعلتني أدمن القراءة كان الأدب الساخر ومن أكثر من قرأت لهم كان محمود السعدني وخليل البنداري، كنت في ذلك الوقت في سن الثانوي أي في السابعة عشرة وبدأت مداركي وأنا أعيش في صعيد مصر تتفتح علي هذا النوع من الأدب، وما لفت نظري في محمود السعدني أن سخريته لاذعة وهادفة أي خلف كل تعليق ساخر أو قصة يحكيها فلسفة معينة أو هدف معين عليك أن تكتشفه، وكانت هناك منافسة بينه وبين البنداري وكاتب ثالث هو محمد عفيفي، والغريب في هؤلاء الثلاثة هو حسن استخدامهم للغة.. فسخريتهم لم تكن تبني علي استخدام لغة سوقية أو متدنية ولم تكن سخريتهم من إنسان تبني علي إعاقته أو أخلاقياته أو نسبه، لقد كانت سخرية راقية مهذبة ليست بها أية إسقاطات جنسية، ومع الوقت استطاع محمود السعدني أن يسبق خليل البنداري ومحمد عفيفي ذلك لأنه كان ساخرًا سياسيا، وكنا نغرم بالسخرية السياسية في وقت كان من الصعوبة بمكان أن تسخر سياسيا، وفي وقت كان الكاريكاتير ينتشر وبقوة علي يد صاروخان في الأخبار وصلاح جاهين في الأهرام وكانت المنافسة بينهما علي أشدها، وكنا - علي صغر سننا - ندرك أن الكاريكاتير هو تعبير بالصورة أكثر من التعبير بالكلام وكانت المنافسة بين صاروخان وصلاح جاهين هي من هو القادر علي التعبير بالصورة عن الفكرة وبأقل عدد من الكلمات، حتي إن الكاريكاتير الذي يكتب عليه بدون تعليق هو الأقوي والأكثر تأثيرًا، وكنا ندرك الفارق بين السخرية بالكلمات دون رسم وهذا النوع من الفن كان فارسه محمود السعدني ومحمد عفيفي والسخرية بالصورة كان فارسه جاهين وصاروخان، أما اليوم فقد اختلط الحابل بالنابل، ولم يعد أحد يدرك أو يفرق بين السخرية بالكلمات والسخرية بالصورة، وكان اعتراضي الوحيد علي محمود السعدني أنه يلبس جلبابًا، ولقد كان رأيي هذا سبب مشكلة لي عندما سألني أستاذ اللغة العربية عن الفارق بين محمد عفيفي والسعدني وكانت إجابتي أن الأخير يلبس جلبابًا وهنا وبخني وبشدة قائلاً: أنا ألبس جلبابًا بعد المدرسة فهل هذا يقلل من قدرتي علي تدريس اللغة العربية، قلت أنا أقصد أن الجلباب يميزه وليس عيبًا فيه، لكن الحقيقة أنا كنت متعجبًا بأن أري أديبا أو مثقفا يلبس جلبابا إلي أن أدركت أن الجلباب هو جزء من الهوية، وأننا كشعب مصري ليس لنا ثياب وطنية مثل الهنود والسودانيين والبدلة هي الثوب الوطني للغربيين، وكان محمود السعدني قد دافع عن جلبابه في إحدي مقالاته بصباح الخير وأنه يريد أن يكون «ابن البلد» وأن يكون قريبًا من رجل الشارع المصري، كنت أعتقد أن أولئك الذين يكتبون أدبًا ساخرًا اختاروا الطريق الأسهل لكن اكتشفت أنه الأصعب لأنه يحتاج في كل مقال إلي إبداع خاص ليجعل القارئ يبتسم وهذا ليس بالهين، وعندما فهمت ذلك احترمت السعدني أكثر وزاد احترامي كثيرا عندما تابعت معاناته وسجنه واستبعاده خارج مصر، وعدم تغيير جلده رغم كل المعاناة التي مر بها ولم يرجع لنا من الخارج وقد ربي ذقنه وبدأ يكتب كتابات دينية موجهة كما فعل بعض كتابنا الذين كانوا يجعلوننا نضحك معهم علي كل شاردة وواردة، والبعض الآخر من اليساريين. إن أروع ما في محمود السعدني أنه لم يتحول إلي كاتب إسلامي أو أمريكاني ورغم سخريته من نفسه ومن كل من حوله، فهذه السخرية لم تعبر عن شخصية هشة بل عبرت عن إنسان مصري حتي النخاع لا يقبل المساومة وغير قابل للشراء.