بعدما انتقلت الرهبنة من مساع فردية إلي نسق مؤسسي، ظهرت فيها مدارس متعددة كان لكل منها ما يميزها، أجمعت علي الالتزام بنذور اربعة : البتولية الوحدة التجرد (الفقر الاختياري) الطاعة، واتفقت في كونها توجهاً فردياً ولم تحسب يوما وإلي الآن رتبة كنسية، ولا يستلزم قبول الرهبان الجدد إجراء طقس كنسي إكليروسي. ومن يتتبع خطوات التأسيس يلمس حرص المؤسس الأول انبا انطونيوس علي ابتعاده عن المدينة ، لذا نجده قد انتقل من حافة النهر إلي مكان منعزل ثم إلي فيافي الصحراء، وكان لوعورة الطريق وبدائية وسائل المواصلات، وقتها، دورهما في حفاظ الأديرة والرهبان علي خصوصية حياتهم ونمط معيشتهم، وكانت وصية الآباء المؤسسين لأولادهم تجنب الاختلاط بالعالم خارج اسوار الدير وذهب بعضهم بحسب ما وثقته الدراسات الرهبانية إلي التحذير من هذا الاختلاط بل حسبوه واحدة من اشارات خراب الأديرة، ووهن الكنيسة. ولعل هذا يفسر لنا إصرار الأب متي المسكين علي وضع نظام صارم يضبط زيارة دير انبا مقار الذي تولي أمره بدعوة من الانبا ميخائيل مطران اسيوط ورئيس الدير وقتها، وبمباركة البابا الانبا كيرلس السادس . بل وإصراره علي أن يبقي رهبان الدير رهباناً لا يتطلعون الي رتبة الأسقفية، فأعاد للرهبنة هدوءها وجنب الدير عديدًا من المشاكل وأغلق عديدًا من منافذ الصراع، ونجح في أن ينعش الذاكرة الآبائية في ذهنية اجيال معاصرة. وكان من تداعيات هذه الصرامة أن عاد الدير إلي سمته التاريخية التي كانت له، كأهم المراكز البحثية اللاهوتية، عندما ورث دور مدرسة الإسكندرية بعد نقل كنوزها الوثائقية للدير واحتماء رموزها الأكاديمية بجدرانه، ومعها انتقل اختيار الأساقفة والبطاركة إلي رهبان الدير كامتداد طبيعي لتقليد اختيارهم من معلمي مدرسة الاسكندرية. وفي غير استطراد نفهم لماذا أوكل لدير انبا مقار حينها مراجعة واستوثاق عقيدة المختارين للقيادة الكنسية قبل وضع اليد عليهم، وتقليد اختيار الأساقفة من معلمي الكنيسة اساتذة اللاهوت وإن تلاشي عندنا إلا انه مازال سارياً في الكنائس الأرثوذكسية الشقيقة بعائلتيها. من هنا يأتي استشعارنا لفداحة قرار فتح ابواب الدير للزيارات بغير ضوابط وبشكل يومي، وهو أمر سبق وتناولته في مقال نشر بمجلة مدارس الأحد 1993 وشكل مع غيره من كتابات كتيبة محرري المجلة وقتها حيثيات العصف بالمجلة وتدجينها، وقد يأذن لي القارئ قراءة ما طرحته وقتها، ليكتشف أن الزمن لم يعد فاعلاً مؤثراً عندنا : قلت تحت عنوان : ليس كل ما يلمع ذهباً : ما إن تجلس إلي واحد من خدام هذه الأيام حتي يبادرك، وقد علت وجهه ابتسامة مزهوة : أنه يشكر الله الذي عمل في هذا الجيل، والذي أصبح يعرف طريقه للأديرة ويجد متعته فيها ويدلل لك علي ذلك بحجم الرحلات التي تكاد تكون يومية. فما إن تمر بجوار بوابة الدير حتي تجد سيارات الرحلات الكبيرة متراصة في شبه مظاهرة أمامه، وما إن تدلف إلي داخل الدير حتي تخال نفسك وكأنك قد ضللت الطريق إلي واحد من اسواق المدينة الكبيرة؛ عشرات يتحركون في كل اتجاه بغير هدف، المَضيَفة انقلبت إلي حلبة مصارعة، فهؤلاء يتنادون طالبين "خُبزة" وغيرهم يصرخون في الأخ المكلف بخدمة الضيافة طالبين "مشروباً ساخناً" وآخرون يتحلقون حول طبق الفول وكأنه أول عهدهم به!!، وهكذا يختلط الحابل بالنابل . وأذكر يوماً غير قريب قصدت فيه دير الأنبا بيشوي العامر ببرية شيهيت وادي النطرون وقد أُخذت بذلك الزحام الذي لم أعهده بكنيستي ...وبعد انتهاء القداس والإفطار، جلست بجوار أحد آباء الدير، كان في عقده الخامس، رحت في فرح غامر وقتئذ اتجاذب معه أطراف الحديث وأُثني علي هذه الجاذبية التي صارت للأديرة، خاصة للشباب من الجنسين، ورحت أؤكد له أن روح الآباء قد وجدت طريقها إلي الأجيال المعاصرة بعد طول جفاء ... يبدو أنه، بخبرة السنين، كان له رأي آخر.. لم يقله ..إنما بادرني بسؤال : - أبمفردك جئت إلي هنا ؟. - لا يا أبي، بل معي زوجتي وطفلاي مريم ومرقس . - وهل أفطرتم ؟. - نعم ياأبي .. إنه طعام عجيب لم نتذوق مثله قبل اليوم !!. - وأين طفلاك ؟. - يمرحان متمتعين بالدير في غير خوف . وأردت أن أحيط كلامي بشيء من وحي المكان، فأردفت : .. وهذا كله في جو محاط بعطر القديسين وحمايتهم حتي يشبا وقد استقر في وجدانهما حب القديسين .. وكأنه لم يسمع .. أو لعله سمع ولم يرق له تحليلي هذا، وواصل كلامه معي : - إذن أنت قد أتيت بأسرتك .. هه .. صليتم معاً .. أكلتم .. فرح أولادك في مكان آمن .. فسحت المدام .. يعني الزيارة أرضت جميع الأطراف وريحتك من زن ولادك ومراتك !! ولم تتكلف سوي المواصلات .. هه .. وقبل أن أستحضر الكلمات التي أرد بها عن بركة المكان، والراحة الروحية، والامتلاء، وعشرة القديسين ...و ... إذا به يختم حديثه معي بكلمات قليلة هامساً : لا بأس .. لا بأس .. إنها أرخص فُسحة !! ولم يزد .. قام لتوه قاصداً قلايته . لم يعلق في ذهني منه اليوم إلا خيالات من ملامح هادئة وكلمات مصوبة مقتضبة ولحية بيضاء إلا من شعيرات سوداء قليلة تستعد للرحيل، وشيء من الأسي يكسو ملامحه ويغطي كلماته !! . أما أنا فلم أستطع أن أترك كلماته تعبر ... استوقفتها .. رحت أبحث في فحواها ومراميها . مازلت علي هذا الحال رغم مرور كل هذه السنين !!. رحت أبحث في الأسباب : وبداية لا نستطيع أن نفصل الأقباط عن نسيج الوطن، فهم قطعة حية من هذا النسيج، يعيشونه في كل أحواله؛ انتصاراته .. إخفاقاته، يغمرهم فرحه ويئنون في معاناة الساعة واليوم ..مع التضخم ومشاكل التنمية . ولا شك في أن اتجاه العودة إلي نمط " التدين "، خاصة بعد انكسارة يونيو67، قد شمل الأقباط أيضاً، فكان التوجه للأديرة ترهباً أو زيارة بمثابة ملاذ يعصمهم من هجمة الانكسار حفاظاً علي إنسانهم الداخلي . ولم تستطع الكنيسة المحلية في المدينة والقرية، في غالب الأحوال، أن تصل إلي شعبها وأن تقدم له رسالتها، فراح الشعب يتطلع إلي الأديرة، خاصة أن أدبيات الكنيسة المتوارثة والمستحدثة تحيط الأديرة بهالة من المثالية التي تشعل الخيال وتلهب فكر الشباب عن الحياة الأفضل. ولأن الأديرة أماكن بعيدة نسبياً، فإن الضوابط التي تحكم واجبات الاستعداد للصلاة أو التقدم للأسرار، في كنيسة المدينة والقرية، التي يزداد التدقيق عليها بشكل حرفي مع غياب تعليم الشعب بأبعادها الروحية ورموزها اللاهوتية، يتم التغاضي عنها داخل الأديرة بالنسبة للرحلات، فيتأكد عند الشباب شعور منقوص بالصلاح والتقوي، لا يكلفه عناء مواجهة (الأنا) والتي تُكشف في الكنيسة المحلية إذا التزموا بها، وإذا ملكت هي الكنيسة المحلية روح الاستنارة في التدبير . ولما كانت زيارة الأديرة في إحدي جوانبها (رحلة) فهي تشبع احتياجاً نفسياً يطغي في ظل الشكل الحالي علي الجانب الروحي لها، ويحل محله في أحوال كثيرة، فيجد الشباب انفسهم وقد انطلقوا علي سجيتهم خاصة في أتوبيس الرحلة، بكل ما يضفيه الشباب عليها وعليهم، ولا مانع بعد ذلك من الالتزام الوقتي بقيود التواجد داخل الدير .. في مفارقة صعبة قد لا تلفت نظر أحد، وتتعمق المشكلة في غياب التعليم الذي يوجه الأنظار لكلمة الله، فتختلط الأمور الروحية بالأمور النفسية ويدق التمييز بينهما. ولما استقر خط ( السياحة الدينية الداخلية ) وصار يمثل رافداً تمويلياً لأطراف عديدة منها الدير نفسه، أخذت الأديرة تشجعه وإن غُلف بأسباب روحية، فوجدنا أغلب الأديرة قد أعدت أماكن انتظار للرحلات لا بأس وبه كل المتطلبات التي تحتاجها أفواج الزائرين، وعند أبوابها، وربما داخلها، "ميني ماركت" مناسب!! ويعد تطوراً طبيعياً تفرضه مجريات الأمور، وتساق له مبررات وقد تبدو منطقية، وقد نسلم بها طالما أننا سمحنا لمسلسل التنازلات أن يجد له مكاناً . أما نتائج هذا التطور بحسب طرح التسعينيات فنحيله الي مقال تال .