يشهد دير أبومقار تغيرات عاصفة في بعض من انساق حياته بعد رحيل الأب متي المسكين بعضها يمكن تفهمه في ضوء جدلية العلاقة التاريخية مع القيادة الكنسية وبعضها يستعصي علي الفهم ويحتاج إلي تفسير لعل أبرزها فتح أبواب الدير للزيارة العامة بغير ضوابط الأمر الذي أثار دهشة البعض واستنكار كثيرين وتخوف المستنيرين من أن تنهار تجربته الثقافية والروحية التي أعادت التواصل مع المنظومة اللاهوتية الآبائية في زمن الاستنارة. ربما لهذا نعيد فتح ملف الرهبنة المصرية منذ لحظة ولادتها وحتي اليوم وقد نقترب بطبيعة الحال من إشكالياتها سعياً للدفع باتجاه تفعيل رسالتها. وفي كل الأحوال لا يمكن تصور الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بغير الرهبنة فهي منتج مصري نبت علي أرضها وبفعل مناخها النسكي التعبدي وأجوائها الموروثة من الحضارة المصرية القديمة وعنها تأسست جماعات رهبانية عديدة في العالم شرقه وغربه. فبينما كان نفر من العباد يضعون اللبنات الأولي في صرح الرهبنة والقرن الرابع يقدم أوراق اعتماده كانت الكنيسة تتواجه مع موجات من البدع والهرطقات تحاول أن تقتحمها وتبدد إيمانها فراحت تجمع دفاعاتها وتدعو لاهوتييها لتوثيق إيمانها وضبطه علي تسليم المسيح عبر رسله وتلاميذه ومرتكزهم الكتاب المقدس باعتباره الوثيقة الآبائية الأولي والعظمي واجتمعت الكنيسة ممثلة في أساقفتها والوفود التابعة لهم فيما عرف بالمجمع المسكوني، كان اجتماعهم الأول بمدينة «نيقية» 325م بالقرب من عاصمة الإمبراطورية الرومانية «القسطنطينية» - اسطنبول حاليا - والتي شهدت مجمعاً لاحقاً. في مجمع نيقية انتبه الحاضرون إلي أهمية ضبط الإدارة الكنسية ومن ثم التعليم والحرص علي حماية الوديعة التي تسلموها من المسيح بعد وضع الأطر التنظيرية لها في مجمعهم والذي مازلنا نردده جيلاً بعد جيل بعد أن اكتمل في مجامع تالية القسطنطينية 381م وأفسس 423م في منظومة قانون الإيمان والذي نقر ونعلن فيه أننا نؤمن بإله واحد.. الله الأب الضابط للكل والخالق للسماء والأرض.. نؤمن برب واحد يسوع المسيح.. المساوي للآب في الجوهر.. نؤمن بالروح القدس.. الرب المحيي المنبثق من الآب.. وتأتي المقدمة لتؤكد علي حقيقة لاهوت المولود من العذراء والدة الإله. وفيما كانت الكنيسة تبحث في مجمعها المسكوني ضبط الإيمان إنجيلياً، كان رائد الرهبنة ومؤسسها القديس انطونيوس قد ترك عزلته التي تفرضها ترتيبات الرهبنة، وراح يجوب شوارع الإسكندرية يثبّت إيمان بنيها، في تواز مع الحراك المجمعي وتوافقاً مع الفكر الأرثوذكسي الذي يوثقه هناك البابا أثناسيوس الرسولي نجم المجمع، ثم يعود مؤسس الرهبنة أدراجه نحو عزلته ثانية. وقد تفهمت الكنيسة الرسمية هذا التحرك الشعبي التلقائي الرهبنة ودوره الفاعل في تثبيت الإيمان وسط الأعاصير، وبروحها الكاشفة لمست وقدرت إمكانات شخوصها في إنكار الذات والتجرد والفقر الاختياري وضبط الجسد والهرب من المديح ومن محبة العالم وما يستتبعها من صراعات. ورأوا في نسق الرهبنة، بحسب مؤسسيها، توفر مواصفات من يقدر علي قيادة السفينة، مدعومين بنمط الانضباط والحزم والاتضاع ومحمولين علي أجنحة المحبة الإلهية الاختبارية، فضمّنوا قراراتهم قراراً يتجه نحو السماح باختيار الرهبان في مواقع الأسقفية بدرجاتها. فكان أن ارتبط حال الكنيسة بحال الرهبنة، عبر التاريخ بعد عصر المجامع، تنتعش الأولي بانتعاش الثانية، وتتراجع بتراجعها، ويكون من البديهي أن تتجه عيون من يبحثون في نهضة الكنيسة إلي الرهبنة يقرأون واقعها ويحللون مواجعها، يتسمعون أنينها، ويتباحثون في الحلول، ويسجلون شهادات حية للمستنيرين فيها، والمنسحبين منها، والمنسحبين فيها، خاصة أن الرهبنة بحسب جذورها حركة شعبية خالصة ومازالت. ومن هنا يأتي الاهتمام بالرهبنة، باعتبارها تجمعاً روحياً يعول عليه بالأكثر في ضبط مسيرة الكنيسة، لتواصل نشر البشارة المفرحة في عالم تستغرقه الحروب والمخاصمات، والصراعات ويحتاج لمن يعبر إليه ويعينه. ولم يكن الاهتمام وليد لحظة، ولم يكن منطلقاً من عباءة تصفية الحسابات كما يروج المغيبون عن واقع الكنيسة وعن استيعاب حتمية ضبط إيقاعها علي نغم الكتاب والتقليد والآباء، فقد سجلت مجلة مدارس الأحد قبل نحو خمسة عشر عاماً 1993 تصورنا عن منظومة الرهبنة في سلسلة مقالات تحت عنوان "المواجهة والمصالحة"، وكنا نري في الكتابة في مجلة مدارس الأحد أمراً يحقق أكثر من هدف ويحمل أكثر من رسالة: تفعيل ثقافة الحوار والمكاشفة الموضوعية خاصة في صفوف الشباب الكنسي عبر مجلة هي محل ثقتهم. ضمان أن آباء الكنيسة في درجاتهم ورتبهم المختلفة سيكونون طرفاً فاعلاً في تفعيل الحوار، وهو ما أكدته الرسائل العديدة التي توالت علي المجلة وعلي الكاتب تعقب وتناقش ما كتب في حوار راق استلزم أن تفرد له المجلة حلقة خاصة من تلك السلسلة. تأكيد أن الكنيسة أم ولود، وأن شعلة شباب الأربعينيات والتي كان أبرز نجومها الاستاذ نظير جيد قداسة البابا شنودة الثالث فيما بعد لم تنطفئ، ومدرستهم لم تغلق أبوابها بعد، وأن ذلك الجيل، بحسب تجربتهم التي سجلتها ذات المجلة قبل أربعة عقود، سيكونون أكثر فهماً لمعني القراءة النقدية للواقع بغير أن تطل نظريات المؤامرة والتخوين والتشكيك لتحجب القراءة عن عيون صانعي القرار، سعياً لخدمة كنسية أكثر تفاعلاً مع الإحتياجات المتغيرة لجيل مختلف، وباعتبار أن ما تطرحه المجلة في هذا الصدد هو إحدي الصور المترجمة لكون الشماس عين الأسقف وأذنه. وأنها تؤصل سعي التواصل الفكري في تأكيد علي تفعيل عقيدة الجسد الواحد الذي يعيش بالتكامل ويزوي بالتمايز والاستعلاء. أما وقد جرت في نهر العلاقات الكنسية مياه كثيرة بات من اللازم أن نعيد الطرح ثانية، عسي أن تكون الآذان اليوم أكثر إدراكاً لأهمية الحوار الإيجابي، وحسبي أن احاول أما التفعيل فمسئولية اصحاب القرار، والكرة في ملعبهم.