جملة توقفت عندها طويلاً عند موليير"علي الأسود الضاحكة أن تأتي" وبالفعل جاء بعده فولتير بأعماله الضاحكة ذات الزئير العالي، هناك بالفعل علي الأرض أسود ضاحكة، تأتي وتبعث فينا البهجة، وتفجر الضحكات في صدورنا ثم ترحل. هكذا جاء محمود السعدني وهكذا رحل بعد أن أدي دوره المقسوم له ولنا. هناك آلاف يحملون اسم السعدني ولابد من تعريفهم باسمهم الأول، أما عندما تقول في الوسط الفني والثقافي والصحفي والسياسي، كلمة السعدني فهناك سعدني واحد هو محمود. كانت اهتماماته كثيرة ومتنوعة غير أنه كان يعتز بشيء واحد هو أنه كاتب، كان علي وعي دائم بأن مهنة الكتابة هي مبرر وجوده الوحيد وأنها ستكون الشيء الوحيد الذي سيتبقي منه وكان علي حق في ذلك، كان كاتبا صاحب أسلوب جميل تستطيع التعرف عليه علي الفور، وفي مرحلة هجم فيها كل من ليسوا كتابا واحتلوا أنهار الصحف، كنت أتناقش معه حول ما يكتبه أحد "المفكرين" فقال لي ببساطة.. ولكنه ليس كاتبا. يا لتقلبات الزمن، كانوا قلة في ذلك الوقت و هم الآن الأغلبية، من الصعب هذه الأيام أن تعثر علي خمسة كتاب، وعندما تكون ثاقب البصر إلي الدرجة التي تجعلك تعثر عليهم بسهولة، فربما تستطيع إخراجهم بصعوبة من تحت الأنقاض، أنقاض الكتابة. هو من أكثر المصريين مصرية، وهو أيضا أسوأهم حظا، لم يحدث في كل الأوقات التي سجن فيها أو اعتقل أن وجهت له تهمة محددة أو مقنعة، لقد سجن طبقا لقاعدة قالها لي المرحوم أمل دنقل علي مقهي ريش: مافيش شاب مصري ما تسجنش أو كان حا يتسجن. في تلك المرحلة كانت السجون والمعتقلات بالفعل تعمل 24 ساعة في اليوم بدوام كامل، لخدمة الشباب الذين يمارسون نشاطًا ثقافيا من أي نوع، وكان النشاط الثقافي يعني في ذلك الوقت أن تكون يساريا، ضد الاستعمار والإقطاع والملكية الخاصة ومع ملكية الدولة لكل وسائل الإنتاج، وعدوا لأمريكا والغرب الاستعماري، وكان النظام يؤمن بكل ذلك ويمارسه عمليا، غير أنه كان يكره بشدة هؤلاء الذين يؤمنون بتلك القيم. وكان السعدني كمعظم شباب جيله يؤمن بتلك القيم الاشتراكية ويؤمن أيضا بأن ثورة يوليو تعمل علي تحقيقها، ولكن النظام لم يكن يستريح لهؤلاء الذين يؤمنون بشيء. ولم يقل السعدني كلمة واحدة يدين فيها هذا النظام لسبب بسيط هو أنه مصري ابن بلد، ولكنه كإنسان صادق مع نفسه ومهنته، كتب بصدق وجمال وبأعلي قدر من الصلابة الروحية، عن فترة الاعتقال بكل ما حدث فيها من تفاصيل مخجلة ربما كانت كفيلة بإخراج النظام من التاريخ. وخرج السعدني من سجنه الأخير في بداية السبعينيات ليجد أنه ممنوع من الكتابة مع أن الحكم عليه كان بالسجن فقط، وهنا يقرر الخروج من مصر، الواقع أن النظام في تلك المرحلة كان يرحب بخروج كل من شاء أن يخرج ربما لمعرفته أن في ذلك ضياعًا أبديا لفنان مصري حقيقي، هكذا بدأت أخطر مرحلة في حياة الولد الشقي لتزيده شقاء علي شقاء، الآن فقط يقابل وجها لوجه الزعماء الثوريين للأمة العربية، ومساعديهم من العاملين معهم، لا يقابلهم فقط بل يعيش في كنفهم، يحصل علي سكن شبه فاخر ووظيفة وهمية ثم لا شيء إلا الأكاذيب والتآمر والخبث تحيط به من كل جانب، الآن فقط يكتشف أن كل ما حارب من أجله لم يكن إلا أكذوبة كبري. هم لا يريدون أسودا ضاحكة، بل ثعالب وذئاب فقط.