حصة التطريز في المدرستين الابتدائية والثانوية حصة نوم. الراهبة بيضاء، بدينة، رائحتها خليط من رائحة الشمع ورغوة الصابون. ثوبها أبيض فضفاض ينسدل من حولها مثل إصيص الزرع ويغطي الكرسي القصير المستدير الذي تجلس عليه قريبا من الأرض. غطاء رأسها مكوي بعناية، خطوطه الحادة تصل إلي الكتفين وتلين مع استدارتهما. تجلس بجوار سلة الخيوط والإبر، مصدر الجذب الأهم في حصة التطريز، ممنوع الاقتراب من السلة أو تناول أي خيط منها إلا بإذن الراهبة. تجلس وفي يدها مفرش كبير بدأته مع بداية العام ولم تنته منه بعد. هو "مفرش الحصة"، مليء برسوم وزخارف متنوعة، بألوان وخيوط مختلفة، وغرز تبدو أحيانا متنافرة. مفرش الحصة معمل تطريز متكامل. بعد دقائق من بداية الحصة، تنعس الراهبة في مكانها المفضل بالقرب من النافذة المطلة علي الحوش. البنات يتهامسن فيما بينهن في هدأة الصباح الباكر المصحوبة بزقزقة العصافير وزنة الحشرات الصغيرة والكبيرة أو في سكون الظهيرة المحمل بأصوات الحي البعيد القادمة من وراء الأسوار العالية. ثلاثة أرباع الساعة تمضي أبطأ من سلحفاة بدينة. من وقت لآخر، تقترب بنت من الراهبة وتربت برقة علي كتفها فتفيق وتسأل البنت بلسان ثقيل إن كانت قد أتمت تطريز المفرش. لا أحد يتم تطريز المفرش قبل نهاية العام! الكل يأخذ المفرش إلي البيت ناقصا، ويعد أن يتمه في العطلة الصيفية. الخطوط التي رسمتها الراهبة علي القماش مستخدمة ورق الكاربون الأزرق تكمل الرسم مثل ندوب قديمة غائرة. مع الوقت تبهت الخطوط الزرقاء ويبهت التطريز نفسه ويظل المفرش دليلا صامتا علي شرف المحاولة. الطالبة ترد علي سؤال الراهبة بأدب شديد، تعتذر عن بطئها وتقول إنها نسيت كيف تطرز غرزة النملة. والراهبة تقول إنها سهلة جدا، وتشرح لها علي مفرش الحصة. تعود البنت إلي مكانها وتجاهد لكي تتذكر أصابعها حركة أصابع الراهبة علي المفرش الكبير. تعيد البنت تطريز السطر كاملا، في مفرش من القطن السميك، رديء الصنع. الرسم يمثل أزهارا وأوراقا ملتفة وزخارف. علي حافة المفرش المثنية للداخل، تصنع خطا من غرزة السلسلة وخطا آخر من غرزة الحشو. تستخدم خيط الكوتونبرليه اللامع: الورد لونه أحمر شانجاه وأصفر ليموني والأوراق خضراء أقرب للزيتوني والمفرش لا يصلح لأي مكان في البيت، اللهم قاع علبة الأشغال. لم نتعلم الطهو إلا نادرا ولم ندخل مطابخ الدير الملحق بالمدرسة أبدا. كما أننا لم نتعلم زراعة الأزهار ولا زراعة الخضر والفواكه في حديقة الدير. كانت الراهبة العجوز المسئولة عن الزراعة تتجنب الحديث معنا، نراها من وقت لآخر تدفع عربة صغيرة بعجلة وحيدة أمامية وحاملين خلفيين وذراع علي شكل حرف U تدخل بها منطقة الغابة الخلفية وتعود حاملة عيدان الحطب. تختفي بها خلف مباني المدرسة. كأنها كانت تهتم بالزراعة كنوع من حب العزلة، باستسلام من يعرف أن العمل عبادة، وأن حياة الرهبنة درجات فوق درجات. هل كان استسلامها وعزلتها السبب في كونها ظلت في درجة العاملات طيلة حياتها؟ أم أنها اختارت ذلك راضية؟ أثناء الفسحة كنا نتجول في الغابة التي لم تكن تزيد علي فدان واحد ونتعجب من وجود هذه المساحة في مدرسة الزيتون الثانوية، ومن اختفائها من مدرسة مصر الجديدة الابتدائية. كنا نسميها "غابة" وهي مجرد دغل من الأشجار العتيقة والممرات التي صنعتها أقدام الراهبات والبنات علي مر السنين. الراهبات يذهبن إلي الدغل للتأمل والصلاة، والبنات يتسللن إلي هناك لتبادل الأسرار وقصص الحب. ذات يوم فاجأنا معلم الجغرافيا برغبته في تدريس الحصة خارج الفصل. اصطحبنا إلي الحوش، وكان فيما يبدو قد أخطر الإدارة ووافقت الراهبة الأم فلم نرها تخرج من مكتبها لاستطلاع مصدر الجلبة. أجلسنا علي المقاعد الرخامية في الحوش وشرح لنا جزءا من الدرس في الهواء الطلق، تحت أشعة الشمس، ثم أخذنا إلي الغابة وشرح لنا بقية الدرس تحت أغصان الأشجار. كانت الراهبة المسئولة عن الزراعة تحوم حولنا غير مصدقة عينيها، وبدت مستاءة من اقتحامنا المفاجئ عالمها الصغير، في وقت لا يصح فيه أن تخرج البنات من الفصول. حصة الأشغال كانت حصة تطريز بالأساس. وللتنويع، تعلمنا قص الباترون لحياكة الملابس في سنة من السنين، ثم اعتبرت الراهبة أن المهمة شاقة، وأن الساعة المخصصة للأشغال أسبوعيا لم تكن كافية لتعليمنا القص. علمتنا أمهاتنا في البيوت قص الباترون والتريكو وأشغال الإبرة والطهو وتنظيف البيت والعناية بالزرع. أما الأولاد فلم يتعلموا شيئا من هذا أبدا لا في البيت ولا في المدرسة. ثم أدركنا فيما بعد أن حصة الأشغال في مدارس الأولاد كانت أكثر إثارة، يتعلمون فيها النجارة مثلا، لا أحد ينام في حصة النجارة! فيما كنا نحن نتعلم التطريز ونتعلم معه الخمول في ساعات الصباح الباكر وفي أوقات الظهيرة. لم تكن أشغالا شاقة، كانت فقط مملة، محدودة نوعيا. لا شك أن رجلا هو الذي قرر في البدء، حفاظا علي الأخلاق الحميدة، أن يفصل البنات والأولاد في المدارس، وأن يخصص لكل منهما نوعا مختلفا من الخبرة والمعرفة. لكن هذا الرجل مات منذ سنين، والنساء اللاتي حللن محله في التخطيط للتعليم مازلن يتبعن بقدر من الذل والرجعية تعاليمه البالية! في بلادنا، المدارس المختلطة معدودة علي الأصابع، أما في كندا فالعكس صحيح، المدارس المخصصة للبنات فقط هي الاستثناء. والأشغال التي يتعلمها البنات والأولاد في المدارس المختلطة لا تميز بينهما علي أساس النوع ولا تمنح أحدهما خبرة بعينها علي حساب الآخر، عملا بمبدأ الفرص المتكافئة. لم أكره أبدا حصة الأشغال في مدرسة الراهبات، كرهت فقط المبدأ الذي قامت عليه، ولم أدرك الفرق إلا متأخرة، في مرحلة الجامعة وبعدها.