منذ سبع سنوات فقط امتلأت الصحافة المصرية بمختلف أطيافها السياسية بمئات المقالات التي رفضت الحرب الأمريكية علي العراق واعتبرتها جريمة إنسانية هددت قواعد ومبادئ السلم العالمي، وكان المحور الرئيسي الذي انطلق منه معظم أصحاب تلك المقالات هو الرفض القاطع لأي تدخل أجنبي بغرض تغيير أي نظام سياسي مهما بلغت درجة استبداده وديكتاتوريته. اللافت هنا أن غالبية المؤيدين لحركة الدكتور محمد البرادعي كانوا من أشد المتحمسين لتلك الرؤية المناهضة للتدخل الأمريكي في العراق وأي دولة عربية أخري، بل إنهم جميعا ممن يحتفظون في مفرداتهم اللغوية بمصطلحات من قبيل «الامبريالية العالمية» و«الاستعمار الكولونيالي» وأعني بالطبع القوميين منهم والشيوعيين. اليوم ومع حلول الذكري السابعة لسقوط بغداد - في 19 أبريل الجاري - اعتلي مخلص الفقراء كما يدعي الدكتور البرادعي منبر الجارديان البريطانية ليطالب الغرب بالتدخل السريع لدعم مشروعه الانقلابي علي الدولة المصرية لينقذ نفسه - أي الغرب - من بديل بن لادن والظواهري في مصر، بل وكل منطقة الشرق الأوسط. البرادعي ذهب بحديثه إلي ما هو أبعد من صيغة المطالب ليطرح نفسه ناصحا، واستشاريا لهندسة الدمقرطة عندما خاطب صانعي القرار السياسي لدي الحكومات الغربية مشددا علي ضرورة الإسراع بدعمه كبديل ثالث، وتمويل أصدقائه الليبراليين، والاشتراكيين المعتدلين، من أجل تمكين الشعب المصري وكذلك باقي الشعوب العربية لتفادي كلفة قتل مليون مدني عند تغيير كل ديكتاتور في المنطقة علي شاكلة ما حدث في العراق أي أن سعادة الدكتور البرادعي- الذي ساعدت تقاريره المائعة علي تسويغ حجج شن الحرب الأمريكية علي العراق - لا يري غضاضة في استخدام القوة العسكرية إذا تأخر الوقت في انقاذ الشعوب، لكن ذلك يتسبب في زيادة حجم كراهية الغرب لدي الشعوب العربية، لذلك طفق جناب البرادعي ينصح أصدقاءه في الحكومات الغربية الذين قلقوا علي أمنه وسلامته الشخصية كما ادعي بسرعة تقديم الدعم والتمويل لجنابه قبل أن يتأخر الوقت، وهو ما سيضطرهم للتضحية بميلون مصري لتغيير النظام المستبد، ويعيد تقديمه كجلبي جديد، وهو الصورة الذي يدرك جناب الدكتور البرادعي مدي كراهية وازدراء الشعوب لها، وهو ما يعني تقليل فرصته في رئاسة دولة كبيرة مثل مصر. تحليل مضمون تصريحات البرادعي يقودنا مباشرة إلي هذا الفهم لاسيما أنه طلب التدخل بالدعم والتأييد من الحكومات الغربية، بل نصحها بإعادة تقييم طريقة تعاملها مع أحمدي نجاد وحسن نصرالله بمخاطبة مصالح الشعوب والتعامل معها مباشرة من أجل خفض شعبية الرجلين. جلبي التغيير - أقصد البرادعي - قارن بين ما يحدث في إيران ومصر قائلا: علي الأقل يوجد في إيران انتخابات، بينما في مصر هناك ديمقراطية زائفة، وعلي الحكومات الغربية أن تعي هذه الحقيقة، وأراد بهذه المقارنة التأكيد علي أولوية دعم وتمويل مشروعه في مصر أولا حتي يمكن استنساخه في بقية دول المنطقة دون تحمل تبعات التدخل العسكري المباشر بما في ذلك من كلفة مادية وأخلاقية. وإذا كانت ثنايا حديث البرادعي تنطوي علي دلالات خطيرة فإن اختياره لإحدي كبريات الصحف البريطانية التي تصدر من ثاني أكبر العواصمالغربية التي قادت الحرب علي العراق لمخاطبة من وصفهم بأصدقائه داخل الحكومات الغربية تحمل دلالة سياسية تستحق الوقوف عندها، ولا أدري ما إذا كان مؤيدوه يدركون هذه الدلالات ويعونها أم أن أدواتهم في الفهم والتحليل السياسي قد عطبت من كثرة استهلاكها في صياغة الهتافات والشعارات الحنجورية، فأحاديث ومقالات قادة جمعية البرادعي حول رفض التدخل الأجنبي من أي نوع مازالت تطالعنا مع محركات البحث في أرشيف الصحف والفضائيات، ومنها علي سبيل المثال لا الحصر كتابات منسق عام جمعية البرادعي أستاذ العلوم السياسية الذي يحب أن يصف نفسه بالمفكر القومي العروبي والأمين السابق لمنتدي الفكر العربي بعمان الدكتور حسن نافعة، وصاحب مشروع دستور الانقلاب الدكتور يحيي الجمل، وكاتب حملة البرادعي فهمي هويدي المعروف بحماسه الشديد لمشروع الإسلام السياسي وغيرهم من مراهقي العمل السياسي، بالإضافة إلي كتبة الصحف السوداء الذين ملأوا الدنيا ضجيجا منذ سبع سنوات ضد الاستعمار الأمريكي، وسب «جلبي العراق»، فيما اليوم يصفقون ل«جلبي مصر»، المفارقة أن كل هؤلاء من المغرمين بديمقراطية دولة الخوميني، ويذوبون عشقا في زعامة حسن نصرالله وهما النموذجان اللذان طالب البرادعي باجتثاثهما عبر اتباع سياسة جديدة تعمل علي خفض شعبيتهما. إن إصرار مؤيدي البرادعي علي تجاهل هذا التباين الجوهري بين مواقفهم، ورؤي مخلصهم يطرح أحد احتمالين لا ثالث لهما، فإما أنهم غيروا جلودهم القومية والإسلامية واليسارية بين عشية وضحاها، أو أنهم في الأصل مجرد «صييته» يهيصون ويزيطون في كل فرح أو مآتم يمر من أمامهم، و«الصييت» هنا «مغنواتي» أو «معددة»، غير أني أميل للاحتمال الثاني في سياق فهمي العام لطبيعة هذه الشخوص التي اقتربت من بعضها في إطار عملي الصحفي. أعود لحديث البرادعي لصحيفة الجارديان اللندنية الذي حرص خلاله علي توجيه خطابه للحكومات الغربية ودوائر صنع القرار بها، بينما هو لا يعبر في واقع الأمر إلا عن نفسه ومشجعيه الذين لا يتجاوزون العشرات، وهو الأمر الذي يجدر الالتفات إليه، ذلك أن الأفراد الذين لا يمثلون كيانات سياسية رسمية يتفاعلون وفقط مع نظرائهم ممن يمثلون جمعيات أو مؤسسات أهلية غير حكومية. البرادعي قال للجارديان أيضا أنه نجح خلال شهرين أي ستين يوما فقط في اخراج الخوف من قلوب المصريين، وهذا ما يعني أنه ينفي كل ما سبقه بما في ذلك مشجعوه الذين انخرطوا قبل مجيئه في حركات وأحزاب سياسية مختلفة. والسؤال هل كان البرادعي وراء نزع الخوف من قلب «فؤاده» لتواجه غطرسة «عتريس» أم أنه كان وراء نزع الخوف من قلوب المعتصمين من موظفي الضرائب العقارية والأطباء والمعلمين إلي الدعاة أساتذة الجامعات طوال السنوات الماضية. لا غرابة في أن يدعي البرادعي كل ذلك فالرجل يقول أيضا أنه البديل الوحيد لمصر، متجاهلا التاريخ الطويل لأحزاب المعارضة، والاصلاحات السياسية والدستورية التي باشرها الحزب الوطني الحاكم. ويكفي حديثه في المنصورة حول ضرورة أن يجتمع ال 80 مليون مصري علي رؤيته للتغيير وهو خطاب لا يصدر إلا عن ديكتاتور يعتقد أنه المطلق الذي يمكن أن يتفق عليه الجميع.