أشعر بمتعة حقيقية أثناء مشاهدة الأفلام السياسية الأوروبية والأمريكية حيث تتوافر عادة شروط تقديمها بصورة ناضجة ومؤثرة، فهناك المعلومات التي تصنع الرأي والرؤية، وهناك حرية التعبير التي تتيح العرض بجرأة، وهناك الاحتراف التقني والفني الذي يمنع أن تتحول الأفلام، إلي خطب مباشرة ومظاهرات علي الشاشة، وفيلم Green Zone أو المنطقة الخضراء الذي أخرجه بول جرينجراس وقام ببطولته مات ديمون هو فيلم سياسي بامتياز من حيث إدانته للطريقة التي تم بها تبرير غزو العراق احتلاله بادعاء وجود أسلحة دمار شامل، ولكن الفيلم - مع الأسف - يعاني من مشكلتين واضحتين سواء من حيث الطرح السياسي، أو من حيث البناء البوليسي الذي يعتمد علي البحث والتحري والاستجواب والوصول إلي الأدلة، والحقيقة أنهما مشكلتان أساسيتان تقوضان البنيان بأكمله رغم المجهود الضخم والإنتاج الكبير الذي يحاول محاكاة الواقع: من الناحية السياسية، تخيل أن فيلماً ينتقد أكذوبة أسلحة الدمار الشامل ينتهي إلي أن كل الأطراف كانت علي خطأ: البيت الأبيض، ومخابرات وزارة الدفاع، والصحافة التي نقلت الأكذوبة، بل وحتي كبار المسئولين العراقيين الذين فرضوا ستاراً ضبابياً علي تسليحهم جعل العالم يشك في أنهم يملكون أسلحة دمار شامل، كل الأطراف علي خطأ ومدانون باستثناء الطرف الأصلي الذي كان منوطاً به توفير الحكومات الصحيحة قبل الحرب وهو المخابرات المركزية الأمريكية التي يظهر ممثلها في الفيلم كباحث عن الحقيقة بعد الغزو وكان الأحري به أن يبحث عنها قبل الغزو في فيلم يفترض أنه سياسي يصبح نوعاً من التهريج تبرئة الجهة الأساسية في جمع المعلومات والأدلة، وأشك بالطبع أن صناع الفيلم لم يعرفوا شيئاً عن التقارير التي تتحدث عن فشل ال(CIA) في تقديم معلومات صحيحة عن الأسلحة التي يمتلكها صدام حسين، ولذلك لا نستطيع أن نصف صناع الفيلم بالبراءة.، ولا يمكن أن نقبل أن يقدموا فيلماً ينتقد الأكاذيب لكي يتبني - في نفس الوقت - أكذوبة بديلة تقول إن مخابرات وزارة الدفاع هي السبب، والمخابرات المركزية براءة! ومن زاوية البناء البوليسي للفيلم نوضح أولاً أن المقصود هنا ليس وجود رجل بوليس، وإنما - كما ذكرت - الاعتماد علي فكرة البحث والتحري والاستجواب وجمع الأدلة، فيلم مثل كل رجال الرئيس، له هذا الشكل رغم أن بطليه اثنان من الصحفيين، وفيلم مثل مفقود الذي أخرجه كوستا جافراس له أيضاً نفس البناء رغم أن بطله (جاك ليمون) أب عجوز يبحث عن ابنه، وفي هذين الفيلمين الهامين كان الشكل الاستقصائي التشويقي في خدمة الفكرة السياسية دون أي مبالغة أو اسراف، هناك امتزاج حقيقي بين المغزي السياسي وخطوات البحث عن الحقائق والأدلة، أما في المنطقة الخضراء فقد تضخم الخط البوليسي لخدمة بطل الفيلم مات ديمون، لم يكن مقنعاً بالمرة أن يسد شخصية روي ميللر وهو أحد أفراد القوة (دلتا 85) المكلفة بالبحث عن أسلحة الدمار الشامل بعد الغزو، كل الفراغ الذي نشأ عن الطرح السياسي المقترح، فقد أصبح مطلوباً من السيد ميللر وهو مجرد ضابط صغير - أن يجمع المعلومات للمخابرات المركزية النائمة، وأن يواجه مخابرات البنتاجون المتآمرة والمضللة للرأي العام، وأن يصحح للصحافة معلوماتها، بل وأن يصل إلي الحقائق التي يفترض أن تصل إليها لجان التحقيق والاستجواب التي يشكلها الكونجرس، باختصار أصبح ميللر رسول العدالة الأمريكية وهو أمر يحتمله فيلم اكشن من الدرجة الثانية، ولكن لا يمكن أن يحتمله فيلم يعتمد بالأساس علي الإيهام بالواقع فتظهر فيه شخصية تدعي أحمد الزبيدي المعارض العراقي الذي يعود في حماية أمريكا فتفهم علي الفور أن المقصود هو الشخصية الحقيقية أحمد الجلبي، بل ويظهر في الفيلم ممثل يلعب دور بول بريمر حاكم العراق الأمريكي الذي قام بحل الجيش العراقي وحزب البعث، وفي حين يبدو المكان بطلاً حقيقياً بتفاصيله، وفي حين تنطلق الكاميرا بحرية مذهلة من أعلي ومن اسفل، وفي الشوارع والطرقات لتعطي مذاق مشاهد الحروب التي تبث علي الفضائيات، فإن الأخ ميللر ببطولاته الخارقة التي تليق بسلسلة رامبو، وببنائه الجسدي الذي لا يتأثر ولو بغبار المعارك، كل ذلك يكسر الإيهام تماماً ويعمل بشكل معاكس ضد فكرة الفيلم ومغزاه السياسي. كان يكفي تماماً أن يعرف ميللر شيئاً لا يستطيع التدليل عليه، شيء يختلف عما هو معروف دون أن يخوض حروباً لا يحتملها موقعه ولا مكانته العسكرية، ودون أن يقوم أحياناً بقتل جنود أمريكيين بحثاً عن الحقيقة، ولكن الحبكة البوليسية سرعان ما انفردت بالساحة ليدخل الفيلم إلي دائرة مبالغات أفلام الأكشن التجارية، ثم سرعان ما زادت الثغرات وأصبحت هناك أسئلة بلا إجابات، من المقبول أن يغضب ميللر عندما يذهب بقواته إلي الديوانية والمنصور، بحثاً عن أسلحة الدمار الشامل المفترضة فلا يجد شيئاً، ولكن العجيب حقاً أن يغير مهمته عندما يرشده العراقي فريد الذي يلعبه بحضور واتقان الممثل المصري الأصل ( خالد عبد الله) إلي مكان يختبئ فيه الجنرال محمد الراوي أحد العسكريين المطلوبين، والمفترض أنه المسئول عن برنامج أسلحة الدمار الشامل، وبعد نجاح ميللر في القبض علي سعيد صاحب المنزل الذي اختبأ فيه الراوي يواصل الضابط الصغير مهمته في تتبع هذا الخيط، بل إن ضابط المخابرات المركزية الخبير بالشرق الأوسط مارتن براون يستعين به للوصول إلي الحقيقة، الواقع أن كل الذين يقابلون ميللر يعطونه كروتاً لكي يتصل بهم وهو أمر لا يمكن تصديقه إلا باعتبار أنهم يقابلون النجم مات ديمون شخصياً، حتي مراسلة وول ستريت جورنال التي تدعي لوري تطلب مساعدته بعد أن تورطت في نشر أخبار حصول الإدارة الأمريكية علي معلومات سرية عن أسلحة الدمار الشامل من مسئول عراقي رفيع المستوي يحمل اسماً رمزياً هو ما جلان. علي الجانب الآخر، يبدو كلارك باوند ستون الذي يعمل مسئولاً عن مخابرات البنتاجون شخصية ضبابية تماماً رغم أن الفيلم سيعتبره المسئول عن تضليل الإدارة الأمريكية، لقد ذهب إلي الأردن لمقابلة الجنرال الراوي الذي نفي تماماً امتلاك بلاده للأسلحة الخطيرة، ومع ذلك أصر كلارك علي أن ينقل عكس هذه المعلومات تماماً لإدارته، ومنح الراوي الاسم الرمزي ماجلان، وحتي نهاية الفيلم لن تفهم كيف جرؤ كلارك علي تسريب أكذوبة صريحة؟! ولا كيف وعد عميله الراوي بدور في العراق إذ قال الحقيقة مع أن قول الحقيقة بعدم وجود أسلحة دمار شامل يعني ببساطة ألا يتم الغزو الأمريكي لانتفاء المبرر؟! المدهش أن ميللر يحل اللغز ببساطة، والمذهل أن بريمر وكلارك يتآمران للتخلص من الراوي لأنه سيفضح تضليلهما وأكاذيبهما مع أن الفضيحة وقعت بالفعل بعدم الحصول علي الأسلحة المزعومة!! لا مفر بعد هذا الخلط إلا الوصول إلي نهاية مفبركة بمقتل الراوي علي يد فريد، وتصميم ميللر علي نشر معلوماته وإرسالها للجميع رغم أنه يفتقد الدليل، أي أنه يقع في نفس خطأ الإدارة الأمريكية التي قامت بالغزو دون وجود أدلة علي أسلحة دمار، ويعني كل ذلك فشل البناء البوليسي والطرح السياسي معاً، وهي كارثة حقيقية تدمر الفيلم بأكمله! هناك كلام وسخرية من فكرة نشر الديمقراطية في العراق، ورفض لحل الجيش وحل حزب البعث ولدينا نموذج لرجل عراقي يحب وطنه هو فريد، ولكن الهدف الذي يدور حوله الفيلم هو تبرئة المخابرات المركزية الكوليتية.. عموماً شكراً وح نبقي ناخد بالنا من مخابرات البنتاجون الشريرة.. منهم لله!!