تبقى السينما الإيرانية بمثابة التجربة الأكثر جدلا بين المعنيين بالفن السابع فى العالم، ففى الوقت الذى تعانى فيه من كل أشكال التعنت والرقابة، نجح صناعها فى تجاوز تلك العقبات وقدموا تجارب جمعت بين عمق الفكرة وجمال الصورة، فضلا عن الاقتراب بصورة مباشرة من واقع مجتمعها. ولم يكن غريبا أن تحصد السينما الإيرانية أكثر من 300 جائزة دولية خلال عقدين من الزمان بينها جائزة السعفة الذهبية بمهرجان كان عن فيلم «طعم التوت». ودفعت الأزمة الراهنة التى تعيشها بلاد فارس فى لفت أنظار العالم مجددا إلى السينما الإيرانية وصناعها، لاسيما بعد الدور اللافت الذى لعبه السينمائيون فى قيادة الاحتجاجات ضد فوز أحمدى نجاد بانتخابات الرئاسة فى البلاد، وهو ما اعتبره المراقبون بمثابة محاولة للخروج من ولاية الفقيه المفروضة على البلاد وعلى الفن السابع أيضا. ولم تعد الاحتجاجات قاصرة على شوارع وميادين طهران بل امتدت أيضا إلى السينما التى أصبحت ساحة أخرى للمواجهة بين التيارين الإصلاحى والمحافظ. فسينمائيو إيران المعروفون كانوا قد أعلنوا موقفهم مبكرا من الانتخابات وأيدوا مرشح التيار الإصلاحى مير حسين موسوى، وارتدى بعضهم اللون الأخضر مناصرة له، بل إن أحد المتحدثين باسم المعارضة هو المخرج الإيرانى الشهير محسن مخملباف المقيم حاليا فى باريس والذى تشاركه ابنته المخرجة الشابة سميرة مخملباف نفس الاتجاه السياسى. واعتبر مخملباف أن ما يجرى الآن هو «ثورة ثقافية» حيث إن «جميع الطلبة صاروا صناع أفلام الآن فى الشوارع بفضل تقنية التصوير بالهاتف المحمول». وأكد مخملباف أن هولاء الطلبة سيكونون صوت إيران إلى العالم كما كانت أفلامه هو وأبناء جيله مثل عباس كياروستامى وجعفر بانا، هى صوت البلاد خلال الثمانينيات والتسعينيات. وفور الإعلان عن النتائج الرسمية التى أكدت أن الرئيس نجاد فاز ب63٪ من الأصوات مقابل 35٪ فقط لموسوى، انضم السينمائيون إلى جموع المحتجين فى إيران مطالبين بإعادة فرز الأصوات متهمين السلطات بالتزوير، ورفعوا مع المتظاهرين شعار «أين صوتى؟»، وذهب اثنان من مخرجى إيران هما محسن مخملباف ومرجان سترابى إلى تقديم وثائق لأعضاء حزب الخضر فى البرلمان الأوروبى تؤكد أن موسوى تفوق على منافسه نجاد بفارق 19 مليون صوت! كما دعا الاثنان دول الاتحاد الأوروبى بعدم الاعتراف بالنتائج المعلنة للانتخابات أو بنجاد رئيسا لفترة ثانية ،وهى النتائج التى وصفها مخملباف بأنها «ليست مزورة فحسب وإنما تشكل انقلابا حقيقيا»! ولم يختلف موقف المخرجة سميرة مخملباف، التى حازت مرتين من قبل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة فى مهرجان كان عن موقف أبيها، حيث دعت من فنلندا إلى تأييد موسوى معتبرة أن «الدفاع عن موسوى الآن هو دفاع عن الشعب الإيرانى»، وأكدت سميرة أنها ذهبت إلى فنلندا لحضور مهرجان سينمائى، إلا أنها مهددة الآن بالاعتقال فى حال عودتها إلى إيران بسبب مواقفها السياسية. الموقف ذاته تبناه سينمائيون إيرانيون يعيشون فى الخارج وبينهم المخرج بهمان غوبادى الذى سبق وأن شن حملة شرسة على النظام الإيرانى عشية اعتقال السلطات هناك لصديقته الصحفية الأمريكية روكسانا صبرى بتهمة التجسس، حيث أكد أنه «لن يعود إلى إيران إلا عند زوال النظام الحاكم هناك»!. مخرجو الأفلام التسجيلية وانضم إلى هذا التيار أيضا مخرجو الأفلام التسجيلية حيث أصدروا بيانا تلته المخرجة رخشان بنى اعتماد اعتبروا فيه أن مهمتهم الأساسية كتسجيليين هى البحث عن الحقيقة، وانتقد البيان بشكل واضح ما سماه «تجاهل الإعلام الرسمى الإيرانى للحقائق وإخفاؤها» معتبرا «أن التليفزيون الإيرانى هو ملك للشعب الإيرانى برمته ولا يجب أن يكون لسان نظام معين» وحذر البيان من أن الاستمرار فى نهج إخفاء الحقائق سوف ينتج رد فعل عنيف للغاية. ووقع أكثر من 113 سينمائيا وثائقيا عريضة يرفضون فيها الحجر على المعلومات والأخبار ويعارضون الممارسات التى تقوم بها الحكومة ضدهم، وقالوا إن بلادهم تفرض منذ عقود طويلة الرقابة على الأعمال السينمائية والأدبية وتمنع ما تعتبره مخالفا لسياستها، مشيرين إلى أنه تم منع عرض العديد من الأفلام. وكما كان السينمائيون فى طليعة المتظاهرين، فإنهم كانوا أيضا من أول من طالتهم عصا النظام،حيث تعرض عدد منهم للاعتقال والملاحقة وفى مقدمتهم جيل الشباب مثل الممثل المراهق أمين ماهر «17 عاما»، الذى اعتقل خلال إحدى التظاهرات والذى يعرفه الجمهور الإيرانى من خلال دوره فى فيلم «عشرة ten» للمخرج الشهير عباس كياروستامى. ووصفت والدة ماهر، الممثلة والفنانة التشكيلية مانيا أكبرى والتى شاركته بطولة «عشرة» وأكدت أنه تم اعتقاله بسبب «ارتدائه لعصابة خضراء على معصمه تأييدا لموسوى ولكونه ناشطا فى حملته الانتخابية»، وأكدت أن ولدها «تعرض للضرب والإهانة النفسية والجسدية» قبل أن تعثر عليه فى إحدى نقاط الشرطة، ودعت مانيا زملاءها الفنانين إلى الاستمرار فى تظاهراتهم مع «انتهاج أسلوب سلمى ونبذ أى شكل من أشكال العنف». وكما شهدت الاحتجاجات التى تلت الانتخابات الرئاسية مشاركة من السينمائيين، فإنها شهدت أيضا، كما كشف تقرير لمجلة «فارايتى» الأمريكية، عن بروز جيل جديد من صناع الأفلام فى إيران.وأشار التقرير إلى أن التعتيم على أخبار وصور التظاهرات ومنع وسائل الإعلام الأجنبية من تغطيتها، دفع بعشرات الشبان الإيرانيين إلى توثيق ما يجرى بالكاميرا وبث أفلامهم عبر شبكة الإنترنت، الأمر الذى حول نسبة كبيرة من الشباب إلى «صناع أفلام تسجيلية”. أفلام المحمول تنقل المظاهرات وبفضل هذه الأفلام التى يلتقطها الشباب بكاميرات صغيرة أو حتى بكاميرا الهاتف المحمول، تمكن العالم من رؤية صور مثل مصرع الفتاة الإيرانية ندى على يد قوات الأمن والمواجهات الدموية بين المتظاهرين وقوات «الباسيج» وغيرها. واذا كان أغلب صناع الفن السابع بإيران قد تبنوا وجهة نظر التيار الاصلاحى لكسر القيود المفروضة عليهم، فهناك من روج للتيار المحافظ، فقام المخرج جواد شمقدرى بإخراج فيلم لنجاد ليكون وسيلة ليرى فيها الشعب الصورة الحقيقية له فى محاولة لإبراز أنه أفضل من يمثلهم فى السنوات القادمة، فى حين قام المنتج مجيد مجيدى بإنتاج فيلم لموسوى أيضا. وعلى الرغم من أن هذا الأسلوب من الدعاية واجه بعض الاعتراضات من سينمائيين ومخرجين حيث وصفه المخرج يوسف النبى بأنه خطأ ونوع من التجارة بالفن، فإن المخرج فرج الله سلحشور. وهو من المؤيدين للرئيس نجاد، رد قائلا « مكانتى الفنية لا تسمح لى بأن أوظف الفن لخدمة السياسة على الرغم من أننى أحب الرئيس نجاد لكننى لن أخرج فيلما انتخابيا له»، وأكد سلحشور أنه يجب التركيز على المناظرات بين المرشحين لأنها الأفضل فى طرح وجهات النظر وتتيح للناس فرصة أكبر لاختيار المرشح الأفضل. وهناك أيضا من فضل الحياد فى معركة الإصلاحيين والمحافظيين، وبينهم الكاتبة والمخرجة ذيلوفر بيضائى التى قالت «لا يمكن أن تكون هناك مصداقية لأى انتخابات إن لم تكن حرة بالمعنى الحقيقى»، مضيفة أنها لم تشارك فى أى انتخابات فى إيران منذ أن كان عمرها التسع عشرة وحتى بلغت الثانية والأربعين وهى ولا تعلق أملا على المرشحين المعلنين لان ذلك لن يشكل أى فارق». القطط الفارسية أما المخرج بهمن قبادى الذى شارك وفاز فى مهرجان كان السينمائى الدولى بفيلمه «القطط الفارسية» فيقول: تشهد شوارع إيران هذا التمرد لأن الناس يبحثون عن حقوقهم الأساسية التى حرموا منها طويلا، وأضاف «أننا نستحق أفضل من ذلك لهذا فالشباب الذين نزلوا إلى الشارع لن يتراجعوا». ويبقى للسينما الإيرانية وصناعها الزهو بأنها تحتل موقعا متميزا على خريطة السينما العالمية، حيث تعد إيران البلد الثالث من حيث حجم إنتاج الأفلام سنويا بعد كل من الهند والولايات المتحدة. وتثير الأفلام الإيرانية عادة إعجاب السينمائيين فى المهرجانات الدولية مثل مهرجان «كان» بسبب تمكنها من طرح قضايا سياسية واجتماعية رغم كل القيود التى يفرضها رجال الدين عليها. وتمكنت السينما الإيرانية من حصد عدة جوائز عالمية لعل أبرزها السعفة الذهبية فى مهرجان كان والتى حصل عليها المخرج عباس كياروستامى عن فيلمه «طعم التوت» عام 1997.