في واحدة من مسرحيات الكوميدي الراحل فؤاد المهندس ظهر للمرة الأولي عادل إمام يطلق عبارة ارتبطت به لفترة، إذ عبرت عن حال البلد في الستينيات وحتي منتصف السبعينيات: "بلد بتاعة شهادات بصحيح". جسّد عادل إمام في المسرحية شخصية دسوقي أفندي الموظف الذي لا يحمل شهادات في مكتب المحامي صاحب ليسانس الحقوق، فكان الموظف لا يلقي إلا كل مهانة وإهانة من الجميع لمجرد أنه لا يحمل شهادة جامعية وكان يردد العبارة كلما تعرض لموقف مهين أو رأي المحامي صاحب المكانة وهو يتلقي دائما الود والتقدير والاحترام من الناس لأنه يحمل شهادة. عموما تطورت الأوضاع وانقلبت الأحوال وصارت مصر بعدها في بداية عصر الانفتاح "بلد بتاعة فلوس بصحيح"، إذ صارت العبارة "معاك فلوس تساوي فلوس" هي الرائجة والسائدة والمعبرة عن العصر وزمن السمسرة والعمولات وبيع الأراضي وتأسيس الشركات وتشييد مصانع السلع الاستهلاكية وهدم التراث والفيللات والبيوت القديمة وتشييد الأبراج والمنتجعات، والزمن الذي هاجرت أعداد كبيرة من أبناء الوطن إلي دول الخليج بحثا عن "قرش" حتي يساوي كل منهم قرشاً، أثرت بالطبع تلك التطورات علي البناء المجتمعي والقيمي لنسيج المصريين وأفرزت تصرفات وسلوكيات واجراءات وقرارات أخري طغي فيها السلبي علي الايجابي والقبيح علي الجميل والعشوائية علي النظام. عموماً انتهي عصر "بلد الفلوس" ويعيش المصريون في عصر وجدوا فيه أنفسهم يرددون: "بلد بتاعة أزمات بصحيح" إذ لم يعد يمر شهر دون أن ينشغلوا بأزمة ما تمس حياتهم وقدرتهم علي العيش. حقيقي أن المواطن المصري وحتي قبل ثورة يوليو كان يعيش أزمات حياتية زادت بالطبع في فترات الحروب وكان يلهث لتدبير احتياجاته الأساسية ويقف في طوابير طويلة لينال حظه من الأرز والبيض والشاي وفراخ الجمعية، لكن الازمات التي يعيشها المصريون الآن صارت ذات أبعاد أخري وأسباب غير تلك التي كانت في الماضي عندما كان الكل يدرك حجم الضغوط التي يواجهها الاقتصاد القومي ويستوعب عن قناعة عبارات من نوعية: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" كان المسئولون وقتها يقرون بالأزمة ويطلبون من المواطن أن يشد حزامه علي وسطه قليلاً، أو حتي كثيراً. أزمات المصريين الآن ينطبق عليها مقولة "أزمة من غير لزمة". فالمسئولون قد لا يرون أن في الأمر أزمة أصلاً وإن رأوا فإنهم عادة يقسمون ويؤكدون بأن الانتاج كما هو وأنه لا نية لزيادة أسعار هذه السلعة أو تلك، وأن ما يحدث هو نتيجة لسلوك المواطنين الذين يتكالبون ويشترون أكثر من حاجتهم أو بفعل بعض السماسرة والدلالات!! يحدث هذا الآن مع أزمة السولار حيث مشاهد مئات السيارات وهي تقف في طوابير طويلة امام محطات الوقود وما يصاحب الزحام في المجتمع المصري من سلوك وتصرفات كلها بالطبع سلبية ثم يجلس المواطن طوال الليل أمام برامج الفضائيات ليسمع آراء مسئولي الحكومة وهم يدافعون عن أنفسهم ويتهمونه بافتعال الأزمة التي أتت بعد أقل من شهر علي أزمة أنابيب البوتاجاز الشهيرة التي تحولت فيها مشاهد القتال علي الأنبوبة الي مهازل. وكما وقع جرحي وقتلي في أزمة الأنابيب تكرر الأمر في أزمة السولار، ويبدو أن مسألة قتلي الأزمات صارت نموذجاً مصرياً، إذ لم ننسَ بعد حوادث القتل أمام المخابز في أزمة رغيف الخبر التي اتهمت فيها الحكومة المواطن بتخزين "العيش" المدعوم وتحويله علفاً للحيوانات وقبلها أزمة مياه الشرب التي نال فيها المواطن أيضا حقه من سياط التهم الحكومية له لأنه بكل بساطة يريد أن يشرب عندما يشعر بالعطش. ويسأل المواطن اذا كان الاقتصاد "فل" وعال العال وكميات السلع سواء المحلية أو المستوردة لا يحدث فيها ضغط والمطروح منها هي نفسها الكميات المطروحة قبل كل أزمة فلماذا تنشأ الأزمة أصلاً؟ يسأل المواطن السؤال لنفسه ولزميله المواطن الآخر، ولا يوجهه لأي مسئول لأن اجابة المسئولين دائما واحدة ومعروفة. فبالنسبة للمسئولين ليس لدينا أزمات وإن وجدت فقد افتعلها المواطن أما بالنسبة للناس فهم صاروا علي قناعة تامة بأن البلد لم تعد بلد شهادات أو فلوس وإنما بلد أزمات.. "بصحيح".