فى بداية ستينيات القرن الماضى، وما بعدها، كانت مصر- بتعبير «دسوقى أفندى»، كاتب المحامى، المحبط الذى لعب دوره «عادل إمام» فى مسرحية «أنا وهو وهى»- بلد بتاعة شهادات، أى لا قيمة لإنسان فيها مهما كانت عبقريته الحقيقية أو المتوهمة، إلاّ إذا كان يحمل شهادة دراسية، وبعد نصف قرن، أصبحت «مصر بلد بتاعة قنوات»، الشاطر فيها ليس هو الذى يفعل شيئًا، ولكن الذى يجد قناة تليفزيونية فضائية أو أرضية، يعلن عن طريقها، أنه ينوى أن يفعل هذا الشىء، من دون أن يفعله، أو يكون فى نيته أن يفعله، أو يكون مؤهلاً أصلاً لفعله، وفى أحيان ليست نادرة، يأتى الإعلان عن طريق آخرين يرشحونه لفعل شىء، قد لا يريد أن يفعله، وقد لا يكون صالحًا من الأصل لفعله، ومن دون أن يستأذنوا صاحب الشأن، عما إذا كان يريد أن يفعله أو لا يريد. وهكذا احترف بعض نواب مجلس الشعب، الإعلان فى القنوات الفضائية، عن استجوابات ومشروعات قوانين وطلبات إحاطة قدموها بالفعل إلى المجلس، ليثور الجدل من حولها على شاشات القنوات وصفحات الصحف، بين المؤيدين والمعارضين للفكرة، ليكتشف الجميع، بعد قليل، أنه لا استجواب هناك، ولا طلب إحاطة، ولا مشروع قانون ولا يحزنون، ولا يتنبهون- إلاّ بعد فوات الأوان- إلى أنهم وقعوا ضحية لنائب لهلوبة، أدرك أنه يعيش فى بلد بتاعة قنوات، فاستغلهم للقيام بدعاية انتخابية تتوجه أساسًا لناخبى دائرته. ولا يختلف ذلك عن التشكيلات والتنظيمات الوهمية الكثيرة، التى لا وجود لها فى الواقع، لأن الواقع «مش مهم» فى بلد بتاعة قنوات، والمهم هو الشاشات، وهى تشكيلات حملت أسماء مثل «شبان من أجل التغيير»، و«صحفيون من أجل التغيير» و«مهندسون من أجل التغيير» و«أطفال من أجل التغيير»...إلخ. وضمت نفس الأعضاء.. ثم اختفت جميعا ولم يعد لها نشاط، لأنها كانت مجرد «لافتات» لكيانات لا وجود لها، لا يعنيها سوى كاميرات الفضائيات التى زهقت منها فكفت عن متابعة أنبائها. ولأننا بلد بتاعة قنوات فقد توقفت أمام الضجة التى أثيرت فى الأسبوعين الأخيرين، وطرحت خلالها أسماء عدد من الشخصيات المصرية البارزة، كمرشحين فى الانتخابات الرئاسية القادمة، والتى بدأتها صحف وتبنتها قنوات، وتبعتها مبادرات، وعاشت ولا تزال عليها قنوات فضائية غير مصرية، حتى إن إحداها، نظمت استفتاء بين مشاهديها لاختيار الأصلح لرئاسة مصر، من بين الأسماء المطروحة، بعد أن أضافت إليها أسماء عصام العريان وجورج إسحاق وحمدين صباحى وأيمن نور، وخصصت جائزة قدرها مائة ألف جنيه مصرى، لأحد المشاركين فيه، من عائد الاتصال على الرقم «0900» مما يضمن للقناة ربحًا لا يقل عن مليون يورو.. ولا يضمن لمعظم هؤلاء المرشحين الفوز بمقعد الرئاسة! وسط هذا الضجيج لم يسأل أحد أصحاب هذه الأسماء البارزة، عما إذا كانوا يقبلون الترشيح أم لا.. ولم يسأل أحد نفسه عما إذا كانت شروط الترشيح تنطبق عليهم أصلاً أم لا.. بل وأسرع بعض أعضاء الهيئات العليا فى أحزاب صغيرة، يعلنون عن ترشيحهم للرئاسة، استنادًا إلى أن أحزابهم ينطبق عليها شرط وجود عضو واحد منتخب فى إحدى غرفتى البرلمان من دون أن يحصلوا على موافقة هذه الهيئات، أو ينتظروا نتيجة الانتخابات البرلمانية التى سوف تجرى فى العام القادم، إذ قد تنتهى بفقد الحزب لهذا المقعد، وبالتالى لا يصبح من حقه أن يرشح أحد قياداته فى انتخابات الرئاسة! أما والبلد بتاعة قنوات، والأحزاب السياسية المعارضة بتاعة انقسامات، فقد أسفرت المنافسة على الترشيح للانتخابات الرئاسية، بين جناحى «حزب الغد» عن مواجهة عنيفة، بين أيمن نور- مرشح جناح إيهاب الخولى- ورجب هلال حميدة- مرشح جناح موسى مصطفى موسى- على شاشة برنامج 48 ساعة بقناة المحور، أمس الأول، تبادل خلالها الاثنان، الاتهام بالعمالة لأجهزة الأمن، وتزوير الشهادات الدراسية، واستغلال النفوذ، والعمالة للمخابرات الأمريكية، وتوعد كل منهما أن يقود الآخر إلى السجن، بتهمة القذف والسب وخيانة الوطن والدين. حدث هذا مع أن القضاء لم يحسم بعد، الصراع بين جناحى «الغد» حول تمثيل الحزب، ومع أن أيمن نور محروم من حقوقه السياسية فى الترشح، ومع أن رجب هلال حميدة، قد لا يحتفظ بموقعه فى مجلس الشعب فى الانتخابات القادمة، ومع أن ما تبادلاه من اتهامات يكفى وحده، حتى لو توفرت فيهما كل شروط الترشح، لكى يسقط كل منهما سقوطًا ذريعًا فى الانتخابات الرئاسية، ولا يحصل حتى على صوته! وصدق اللى قال: بلد بتاعة قنوات!