تطلع الرأي العام بشغف وقلق شديدين، إلي ما سوف يصدر عن المجلس الخاص لمجلس الدولة في قضية تعيين المرأة قاضية، بعدما أعلنت الجمعية العمومية للمجلس الموقر عن رأيها الغالب بالرفض محتجة بعدم مناسبة الزمن للتعيين.. وانطلقت كل الآراء معبرة أو بالأحري محتجة، علي رأي جموع قضاة مجلس الدولة المحترمين. وبدا في أروقة المجتمع أن رأي قضاة مجلس الدولة في جمعيتهم العامة بالأغلبية الرافضة، والأقلية المؤيدة وامتناع الأربعة عن التصويت كل ذلك في جانب.. ورأي المجتمع في جانب آخر، إلي أن أعلن عما دار من مناقشات وانفعالات بالمجلس الخاص يوم الأحد الماضي وبالتفصيل. وكان رأي الجمعية العمومية لقضاة مجلس الدولة فيما انتهت إليه، مفاجئاً وصادماً للرأي العام بسبب تقديره الهائل لمجلس الدولة وقضاته العظام، باعتباره حصناً حصيناً للحريات والحقوق علي طول عهده، رافعاً لواء الحق والعدل والإنصاف في وجه الحكومة وقراراتها، كائناً من كان، حال كونه مستشارها الأمين.. وقاضي جهة الإدارة العادل.. ومشرعها الحكيم.. منذ أن انطلقت أحكامه دوماً عالية مدوية حماية للمشروعية وضد الغلو والتعسف والعدوان.. وعند مراجعة مشروعات القوانين واللوائح بعلم وفن.. وفي كل ذلك لا يخشي في الحق.. لومة لائم.. فالحق أحق أن يتبع وفوق الجميع. واستقر الرأي العام معبراً وفخوراً.. معتزاً وزاهياً بتاريخ مجلس الدولة العتيد وقضاته العظام ساهرين علي الحق وحماية المشروعية ضد الإنحراف وجور السلطة مهما علت.. ولعل في أحكامه المدوية منذ أيام في قضايا جزيرة القرصاية ضد الحكومة كلها وعزبة البكباشي ضد الأوقاف... استمراراً لعهده دوماً، ليوازن فيها بين مراتب الحقوق والحريات والمصالح.. ويعلي فيها قيمة مصالح الأفراد وحرياتهم علي المصالح الضيقة حتي ولو كانت حكومية ويجعل مصالح الناس أولي بالرعاية حماية للأمن والسكينة والاستقرار.. كل ذلك خير شاهد علي مكانة مجلس الدولة العتيد.. وقضاته العظام علي مر السنين في ضمير الرأي العام. لهذا كان رأي الجمعية العمومية لقضاة مجلس الدولة مفاجئاً وصادماً عندما أعلنت عن رأيها بعدم مناسبة الزمن لتعيين المرأة قاضية في أول درجات السلم القضائي عائداً بالزمن إلي بداية الخمسينيات، رغم كل التطورات الحادثة في المجتمع وتعاظم مكانة المرأة بكفاحها علي مر التاريخ. لكن الرأي العام في ذات الوقت ظل معبراً في عكس الإتجاه، مع كل الاحترام والتقدير لهذا الخلاف والرفض، وبعيداً عن أخبار الإثارة وتعليقات الفتنة التي تريد أن توقدها ناراً، فإن آراء عاقلة كتبت معبرة عن القضاء الذكوري والعدالة المؤنثة مذكرة بالآراء الفقهية المؤيدة. وهناك من تساءل بدهشة كيف تكون جهة العدالة شريكاً في الظلم وآخر من كتب.. وكأننا في أفغانستان.. وغيرهم كتبوا لنا بالعقل والحكمة والاحترام. ولأن ما صدر عن الجمعية العامة لقضاة مجلس الدولة في 15 فبراير الجاري ليس أحكاماً، لهذا كانت مادة نقاش وحوار جدلي في المجتمع مطالبة بإعادة المداولة والأخذ والرد والتعليق، دون أية حساسية، لأن النقاش يدور حول قضية من قضايا المجتمع.. لا تخص المرأة وحدها.. ولا تخص مجلس الدولة وحده، حتي ولو كانت القضية تتصل بشأن من شئون العضوية، خاصة وأن القضية ليس فيها ما يخص الدستور والقانون والمواثيق الدولية لأن كل ذلك قد بات ثابتاً.. ولم يعترض القضاة أنفسهم علي ذلك كله، ولم يكن مادة نقاش بينهم. لكن الأمر انحصر في الملاءمة، ومناسبة الزمن للتعيين عاجلاً أو آجلاً سواء إلي أجل قريب مسمي أو غير مسمي، لهذا كانت القضية مطروحة للحوار لكل من يملك التعبير أياً كانت مقوماته ومؤهلاته وخبراته. ولأن القضية كانت دائرة.. والمناقشات فيها مستمرة وتزداد سخونة.. يعبر المجتمع كله بأفراده وأجهزته وسلطاته عن رأيه فيها، ولأن القضية خرجت عن دائرة النقاش في مبادئ الدستور والقانون.. والشرعية.. وانحصرت في الأسباب التي أعلن عنها قضاة مجلس الدولة أنفسهم في جمعيتهم العمومية، بشأن عدم ملاءمة التعيين حالياً، بمناسبة حال المجتمع وثقافته ومسئوليات المرأة التي ظلمتها ثقافته وتقاليده علي مر التاريخ. لهذا كان الرأي العام علي يقين من إعادة النظر والمداولة بين قضاة مجلس الدولة أنفسهم في جمعيتهم العمومية الذين سوف ينظرون حولهم ويخرجون من غرف المداولة.. وحصار المنصة، عند مناقشة قضية مجتمعية بغير خصومات أو مصالح إلي واقع المجتمع والتطور الهائل الذي جري في حياة الناس عامة، وثقافة المجتمع وخاصة بالنسبة للمرأة. لكن سرعان ما أصدر المجلس الخاص قراره بجلسة الأحد الماضي وما لبثت أن أذيعت المداولات بين السبعة الكبار من شيوخ المجلس، ورأي كل واحد منهم في النقاش.. وما دار في محراب المجلس الخاص وبالتفصيل، منسوباً إلي كل من قال أو احتد.. أو ترك الاجتماع وانصرف. ثم صدر عن رئيس مجلس الدولة قرار مسبب استناداً إلي قرارين بالاجماع صدرا عن المجلس الخامس من قبل فصدر قراره باستمرار إجراءات التعيين.. بالتحري والكشف الطبي وهو ليس قراراً نهائياً إذ إن قرار التعيين ذاته مازال مشروعاً في مسئولية المجلس الخاص وأمانة أعضائه السبع، لكن ذلك كله أفشي وقائع المداولة.. وأذاع الأسرار وزاد من النيران ونشر ما لا يصح نشره وما لا يصح أن يقال عن علاقة المجلس الخاص برئيسه وعلاقة أعضاء الجمعية وعن ردود الأفعال الغاضبة حتي أن الجمعية العمومية لقسمي الفتوي والتشريع يوم الأربعاء الماضي أوصت بحق وحزم بعدم الإثارة وضرورة المحافظة علي هيبة المجلس ووقاره أمام التاريخ والرأي العام. نعم قد يجري الخلاف في الرأي، ولكل رأي وجهته وسنده وحجته.. لكن إفشاء المداولات وإذاعة أسرارها واستمرار النيران وتبادل القذائف كل ذلك يهدد المجتمع كله حتي ولو كان من نيران صديقة، أو بمناسبة تعيين المرأة قاضية، وهي قضية تجاوزها الزمن. لكن علينا أن نقف حماية لمهابة مجلس الدولة الشامخ.. ومقام شيوخه العظا م قبل أن يكشف التاريخ أو يسجل إفشاء الأسرار وإذاعة ما جري في المداولات بشأن قضية المرأة.. أو المرأة قاضية في أول الدرجات أو غيرها من القضايا الأخري ومهما بلغ شأنها!!