هاتفني شقيقي الأصغر من الاسكندرية قال لي إنها "مولعة" بالفرحة وأن أهلها كلهم خرجوا بعد مباراتنا مع الجزائر إلي الكورنيش من أوله لآخره، وأن النساء كان عددهن مثل الرجال وأكثر، وأن البعض من النساء والرجال أخذ يوزع علي غيره مشروبات التحية وأن.. أوقفته محاولة إيقاف حماسه المتدفق، فقد كان اليوم هو صباح الجمعة أمس الأول الساعة العاشرة وكانت المباراة مساء الخميس وقد جلست أنا وكثيرون غيري نتابع فرحة الناس في القاهرة عبر القنوات المصرية، والعربية خاصة الجزيرة الرياضية التي نقلت المباراة من أنجولا وفقا لانفرادها حصريا بحقوق بث بطولة الأمم الافريقية. أقول إنني تابعت هذا الحدث قدر ما استطعت أنا وغيري ووفقا لارتباطات كل منا، وأعترف من خلال سؤالي لعدد من المشاهدين الخبراء بأن بث بطولة أو مجموعة مباريات ليس عملا اجتهاديا وإنما يرتقي إلي مستوي الجهد الآلي في لغة الابداع، لكن الابداع في تقديم جهد أو حدث معتاد هو في إحاطته بكل مقومات التحقق المتكامل ليصبح منظومة تطرح كل ما يتخيله المشاهد وما يهتم به ولهذا جاء النقل للمباراة من خلال معلقين وقناتين متتاليتين معلق مصري ومعلق جزائري، لكل منهما لهجته وخصوصية مفرداته وطريقته في التعبير عن فرحته وثقافته وزهوته وقلقه. إنه هاجس أو فارق صغير في تلقي الحدث ولكنه كبير جداً بالنسبة للمشاهد الجالس عن بعد يود أن يسمع صوتاً يطمئنه أو يشاركه نقلات الملعب وأزماته وليس ناقلاً محايداً بارداً كل همه الحفاظ علي التوازن بين فريقين كل منهما يريد أن يفوز بالطبع أخذت أنا وأسرتي ننقل المؤشر بين القناتين والمعلقين وكأننا نبحث عن الرأي والرأي الآخر برغم وضوح الرؤية بالنسبة للأداء المصري الرائع، وأخلاقيات الملعب المصرية رفيعة المستوي. لن أكون مبالغة إذا وصفت هذه المباراة بأنها حدث فني متكامل، أو عمل درامي متميز في جميع مفرداته، وأن السيناريو بدا واضحا منذ البدايات، وجاء أداء كل لاعب وجهده السخي، بلا أنانية، ليضع خطوطا تقوي بناء يتصاعد تدعمه أزمات يمتصها ليعود الأداء أقوي من أي نقطة ومن أي شخصية في الملعب لم تكن هناك شخصيات هامشية في فيلم المباراة وإنما الجميع أبطال، والفارق هنا بين هذا الفيلم والافلام الحقيقية أننا عادة لانري المخرج وهو يشاهد فيلمه في عرضه الأول، ولكننا رأينا حسن شحاتة ومعاونيه وهم يراقبون أحداث المباراة ورأينا شوقي غريب يوجه بعض اللاعبين أثناء لحظات التوقف، في الفيلم السينمائي، لايمكن للمخرج تعديل السيناريو المكتوب بواسطة المؤلف أثناء العرض.. وفي الفيلم "الرياضي" يمكن هذا. وفي الحالتين يصبح الابداع هو الحد الفاصل بين عمل يدخل التاريخ ونظل نسترجعه وآخر لايهتم أحد باسترجاعه ومباراة مصر والجزائر في الدور قبل النهائي لبطولة أفريقيا لكرة القدم دخلت التاريخ لأسباب كثيرة أولها يخص فريقاً محترماً مشرف الأداء يحمل اسم بلد كبير هو مصر والأمر الثاني هو صدق الاداء الذي لمحناه جميعا بعيوننا وقلوبنا فلم يبخل أحد بجهده وعرقه "مع أن هذا يحدث أحيانا كثيرة" الأمر الثالث أن هذا الفريق كذب كل ما أشيع عنه من شكوك في قيمته وقدرته خلال مباراة مصر والجزائر السابقة في السودان، بل إنه أكد بوضوح مع ما حاولنا تأكيده مرارا من قبل أنه فريق كبير يلعب باسم بلد وشعب كبير متحضر ومسالم وقادر.. وليست هذه شوفينية بأي حال من الأحوال فما تابعته مع ملايين غيري عبر الشاشات وبعيداً عن الفرحة العارمة في التليفزيون المصري هو شهادات خبراء الكرة والملاعب الافارقة والفرنسيين والإنجليز الذين جاءت بهم الجزيرة الرياضية لتحليل المباريات مع المعلقين العرب، ومع محللين ينتمون للفرق المشاركة كان بالاستديو جزائريان ومصريان "حازم إمام وزكريا ناصف" مع الخبراء الأفارقة والأوروبيين والذين لاينحازون إلا للعب الجميل ولقد انحازوا للفريق المصري وقالوا أسبابا وشهادات أغربها هي دهشتهم من مستوي هذا الفريق الذي لايلعب أغلب أفراده في فرق عالمية محترفة؟! أسعدتني هذه الملاحظة أنا وغيري فقد كنا دائما في مصر نقدم إنجازات مدهشة حين تتاح لنا فرص التحقق والرعاية والنظام وأن ما أنجزه هذا الفريق بمدربه المحلي نموذج وقدوة لفرق أخري، في محاولات أخري من العمل يجب أن نسعي إلي تشكيلها ودعمها لنعيد لمصر وجهها المشرق دائما وليس من خلال شذرات متفرقة. وأعود لأخي الأصغر الذي بدأت به المقال وقد سماه أبي "إحسان" حبا في إحسان عبدالقدوس كاتبه المفضل رحمه الله قال لي إحسان وأنا أنصحه بالهدوء حتي تنتهي المباراة الأخيرة ونحصل علي الكأس: لا.. هذه المباراة بطولة وحدها.. حتي لو لم نحصل علي الكأس.. لقد رددنا الإهانة الكلامية علي الإنترنت "أول اهتمامات الشباب الآن" وإهانة جمهورنا في السودان باللعب علي الكرة وبالأدب والاخلاق ولم أجد ما أجادله به فهو مازال متحمسا بعد ليلة قضاها علي الكورنيش مع ملايين الاسكندرانية طاقة جبارة ربما مدمرة اختزنها هذا الشعب غضبا مما حدث له في مباراة سابقة وجاءت المباراة الجديدة لتطلق هذا المخزون من المشاعر، ولتحوله إلي مشاعر فرحة وحب وشعور جارف برفع الظلم ورد الاعتبار. الفرحة لم تكن في الاسكندرية وإنما في كل مكان فيه مصريون يجمعهم "حبل سري" اسمه الوطن ولأعود إلي الجزيرة ومهنيتها التي لاحقت أفراحنا في القاهرة من فريق يقوده جمال هليل في مصر إلي فرق أخري في الأردن والخليج وباريس حيث تجمعات المغاربة، ولأول مرة أشعر أن الإعلانات لم تعد عبئا في هذا الاطار فكلها ساهمت مع بقية العناصر في تقديم لحظة فرح حقيقية لهذا الشعب الذي كنا نتناقش حتي الأمس في الفتنة والفرقة التي ضربت بين ابنائه بعد حادث نجع حمادي.. والآن.. كيف نقلص ونبتر ما يفرقنا.. ونقوي كل ما يجمعنا ولا مفر من طرح هذا وسط كل هذه الفرحة، فبعد كل فرحة.. لابد من وقفة.. لانريد لطاقتنا وجهدنا أن يتبدد في مصارعة بعضنا البعض.. فقد أعطانا فريقنا القومي المتحد أكبر درس في هذا الوقت الصعب.