الصباح مثل صباح الأمس، أيضا مثل ظهيرة الأمس، اليوم الأربعاء، غداً اليوم الأخير من أيام السنة، بين يدي ديوان المتنبي، لا أعرف ماذا حدث؟، كنت أقرأ قصيدته " لك يا منازل في القلوب منازل"، لعلني نمت، لعلني كنت أحلم، رأيت نفسي في الطريق إلي وسط البلد، مررت أمام فندق شيراتون القاهرة، عبرت الكوبري، أصبحت علي مقربة من نادي القاهرة، رأيته واقفاً بمفرده، جلبابه يشبه جلباب أبي، لجلباب أبي رائحة الإستبرق، لجلبابه الرائحة ذاتها، غلبتني ملامحه، كان يردد مطلع القصيدة: لك يا منازل في القلوب، عرفته علي الفور، سيدي المتنبي، كان يلتصق بجدار النادي رعبا من السيارات، سلمت عليه، سألته: أين كنت؟ قال: كنت في شارع كافور الإخشيدي، سألته وحدك، قال: نعم، وحدي، أدخلوني منزل رجل يدعي السادات، كان رئيس قومه، ولما أفرجوا عني، ذهبت إلي مكانين، هما مركز الإبداع والمسرح الصغير، بهرني المسرح، عرضت علي المسئولين عنه أن أقدم قراءة لشعري قالوا: شعرك عمودي ولا يلزمنا، ولما لم أنصرف، طردوني، بالأمس، ذهبت إلي حانوت لبيع الكتب، واشتريت كتاباً من ثلاثة أجزاء، صاحبه صنّفه علي أنه ديوان منسوب إلي، الكتاب جميل، كان المتنبي يكلمني وينظر إلي السيارات في فزع، اقتربت منه وحاولت أن أضع يدي علي كتفه، فنفر وابتعد، قلت له: سوف تصحبني وتأتي معي، قال لي: من أنت؟ قلت: شاعر من شعراء هذه الأيام، سألني: هل أنت سعيد، قلت: لست سعيداً بأيامنا، قبل أن أقابلك كنت أعاني من التفكير في سوء تأويل ما أكتبه، من شعر أو مقالات، سوء تأويل مصحوب بسوء ظن، فإذا كتبت - علي سبيل المثال- "قال جابر عصفور للصديق العزيز الغيطاني: كنا نعرف أنها لك - أعني جائزة دبي الشيخ زايد- ونحن نقول لعصفور: هذا العام نعرف أنها لك يا عصفور، لا تقولوا استحقاق، بل قولوا استئثار"، إذا كتبت ذلك وأنا أفترض أن القارئ الذكي الذي يعرف ما يسميه البلاغيون التقسيم، سيدرك أن الاستحقاق مخصوص بالغيطاني، والاستئثار مخصوص بعصفور، وجدت أحدهم يسألني: ماذا تقصد؟ هكذا كنت أفكر قبل أن أقابلك، أما الآن فدعنا نبدأ الإعداد لسهرة رأس السنة، كان المتنبي يحاول أن يفهمني، لسانه حزمة أسئلة، لكنه سكت، قلت: سنذهب إلي بيتي، ثم نكتب قائمة بأسماء الضيوف الذين نريدهم، ولأنك معي، سأحاول الزهو، سوف أدعو كل أصدقائي الذين شاركوني العمل والاحتفال بكتابي "متاهة الإسكافي"، سأدعو نجاح طاهر صاحبة النصف الآخر من الكتاب، ورنا إدريس مديرة دار الآداب ناشرة الكتاب، وخيري شلبي وماجدة الجندي وجمال الغيطاني وسيد محمود ومحمد شعير ومحمد علي شمس الدين وجودت فخر الدين وشوقي بزيع ومحمد علي فرحات وطلال سلمان وشين أبو النجا وبعض محرري اليوم السابع، فكلهم احتفلوا بالكتاب وأحاطوه بعطف خالص، قلت للمتنبي: لكن غياب السيدة ماجدة الجندي سيجعل الحفل باهتا ومملا، ماجدة ستكون بيننا قبل رأس السنة القادمة، وعندها سنشرع في حفل يحضره كل هؤلاء، ويخترعون أسبابه، سوف أصر علي المتاهة كسبب، وأيضا سوف أصر علي عودة ماجدة كأسباب مجتمعة، سوف نرقص حولها رقصا جميلا بقدر جمالها، طيبا بقدر طيبتها، ولما تتعب أجسادنا، سترقص أرواحنا نيابة عنا، أما ماجدة نفسها، سوف تجلس كملكة بلا حراس، كملكة آمنة، سألني المتنبي: هل لديك اقتراح بديل، كنا قد وصلنا إلي البيت، فأطلعته علي ألبوم فيه صور محبوباتي القديمات، فارتبك، رأيت ارتعاشة خفيفة، فقلت له: هذه هانم ذات الأصابع الستة، وهؤلاء هن مها وناريمان وأنطوانيت، فكرت أن أدعوهن، لكني اكتشفت أنها قصص انتهت تماماً، وأنني أذكرهن كتاريخ ونوستالجيا وحنان غامض، اكتشفت أيضا أنهن لا تعرف إحداهن الأخري وأن عبء التعارف سيكون ثقيلا إلي حد زوال الدهشة وفتورها، وأن مها أصبحت راسخة لا تليق بها الخفة والطيش، وأن ناريمان وأنطوانيت بعيدتان، وأن هانم تعيش في مكان أجهله، فتخليت عن دعوتهن، وتخليت عن نبيلة طه ونادية عبد المحسن وإنعام وناهد، وقلت لنفسي وللمتنبي: لن أدعو جماعة من النساء، سأدعو واحدة، ولا بد أن أختارها بدقة واحتراز، لا بد أن أختارها بمحبة وشغف، ولم أتردد طويلا، إنها تلك الفاغرة الشفتين اللامعة العينين التي لا أحتمل نسيانها، سألني المتنبي: ما اسمها، تجاهلت سؤاله وقلت له: مرات كثيرة، دربت نفسي علي كراهيتها، وفشلت، مرات أخري، دربت نفسي علي استعادة شرورها غير المحدودة، وفشلت، كانت صورتها وهي تعطيني نفسها، وهي تحنُّ وتئنُّ وتهيج وتهدأ، تغطّي علي صورتها وهي تؤذيني، فتشت في مكتبتي عن الكتب التي أتتني بها من بلدان بعيدة، ووضعتها في حِجْره بكسر الحاء وتسكين الجيم، دواوين الشعراء السوريين وصفي قرنفلي وعبد الباسط الصوفي وعبد السلام عيون السود، كتب سيمون دبوفوار الجنس الآخر وأنا وسارتر والحياة، نسخة فوتوكوبي من كتاب محمود محمود درويش "في وصف حالتنا"، كتاب ابن جني "الفسر" بالفاء، ارتعش المتنبي عندما لمسه، وقال: ابن جني، يعرف شعري أكثر مني، حكيت له عن الكتاب الذي منعته عني وهي ترغب أن تعطيني إياه، أحد مؤلفات بليخانوف، قلت له: بليخانوف أصبح رمزنا السري، هل أدعوها؟ قال: نعم، قلت: ولكنها لم تعد تهتم باهتمامي بها، أظنها إذا دعوتها ستضحك وتستخف وتقول لي، ما زلت رومانسيا يا منعم، وأنا لم أعد كذلك، قال: ابحث عن ضيوف آخرين، فكرت، هل أستضيف عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين، هل أفاجئه وأستضيف محبوبته: خولة أخت سيف الدولة، هل أستضيف كيم نوفاك وليلي بعلبكي وسعاد حسني ونجاة الصغيرة وميرفت أمين وغادة السمان وليلي مراد وجاك نيكلسون ووالتر ماتاو، فكرت هل أستضيف الشاعرات، لينا الطيبي ورنا التونسي وجيهان عمر ونجاة علي وهدي حسين، ومعهن علاء خالد، كنت علي يقين بأنه يكفيني من الفواطم أمي، فهي فاطمة بنت محمد، وكذلك أم الحسن والحسين وزينب فهي أيضا فاطمة بنت محمد، اتصلت بهن جميعا، الغريب أنهن اعتذرن، هل أبحث عن سيدتي خالدة سعيد وسيدي عبد الفتاح كيليطو، هل أبحث عن أصدقائي الدائمين حسن طلب ومحمد سليمان وأحمد طه وحلمي سالم - رغم جفوته المفتعلة- وعبد المنعم تليمة وسوسن بشير وبشير السباعي وعبد المقصود عبد الكريم ومحمد عيد إبراهيم ووحيد الطويلة ومكاوي سعيد وعمرو خفاجة، القائمة أطول من قامتي، ولا أملك أن أكملها، نظر المتنبي إلي بيتي، فأدرك بعينيه أنه بيت صغير، سألني عن محمود شاكر وعبد الوهاب عزام وبعد وقت سألني بحذر عن طه حسين، وفجأة أشرق وجهه وقال: هل تعرف الجواهري، قلت: نعم، قال: لقد أصبحنا صديقين سألته: وسعيد عقل، لم يرد، جلس علي الأرض، وفعلت مثله، بعد أن وضعت أمامنا الكتب التي أحببتها علي مر حياتي، تشيكوف وكافكا ودستويفسكي وأدونيس والمازني وأنسي الحاج ومارون عبود وأحمد شوقي - سألني عنهما- وإبراهيم ناجي وإبراهيم أصلان وميلان كونديرا والبساطي وزكريا تامر وبهاء طاهر وفوكنر والغيطاني وعبد الحكيم قاسم، قبل أن أفتح أي كتاب، كنت أتركه للمتنبي يلمسه ويشمه ويسألني عن صاحبه، لما وصلنا إلي كتاب الزيني بركات، قلت له: في أول حياتي كتبت قصيدة عن الزيني ونشرتها، وشرعت في قراءة صفحات من الزيني، بعدها شرعت في قراءة قصة كاملة من بحيرة المساء التي بسببها ذهبت إلي أصلان في مكان عمله، واحتملت استرابته بي، قلت له: كتب أدونيس وأنسي وجبران أكاد أعرف أشكال صفحاتها غيبا، أكاد أعرف رائحتها غيبا، كتب المازني في قلبي، نظر المتنبي إلي قلبي، شرعت في قراءة صفحات من أيام الإنسان السبعة، وحكيت له عن خطبة عبد الحكيم قاسم الأخيرة، والتي أسميتها خطبة الكراهية في سبيل الحب، كنا في كازينو الشجرة علي نيل هيئة الكتاب، قبل أن يموت بزمن قصير، وأنشأ خطبته "أنا مثل طه حسين، أكره الجميع، لأغير الجميع"، نظرت إلي وجه المتنبي، وجدته يغالب التعب، نحن لم نأكل، ولما عرضت عليه أن يأكل، اعتذر، فأخذته إلي سريري، وعدت لأجلس ساعات بين الكتب، في الصباح استيقظت، وسألت زوجتي: أين أبو الطيب، فرمقتني باستغراب وقالت لي: هل ذهب عقلك، اليوم هو الخميس آخر أيام السنة، إذا خرجت تذكر التورته وبعض المشروبات، ثم قالت في سرها: الرجل جُنّ، اللهم احفظنا، اللهم احفظنا النهاردة أبو الطيب، وامبارح بشار، اللهم احفظنا.