كتبت- من القدس: مني أبوعيسي تصوير: جون بركينز خوف.. قلق.. استغلال.. هروب دائم ومستمر.. وملاحقات أمنية.. هذه مجرد توصيفات للحالة التي يكون عليها عشرات وعشرات من العمال الفلسطينيين الذين يعانون من البطالة في أراضيهم ولا يجدون أمامهم سبيلاً إلا العمل علي الجانب الآخر من الجدار العازل الذي تواصل إسرائيل بناءه.. يمكنك أن تقول باختصار إن الوضع الذي أصبح متعارفًا عليه أن السبيل الوحيد للبحث عن الرزق أمام هؤلاء الشباب هو الذهاب إلي تل أبيب نفسها حيث يتم استغلالهم في بناء وتوسعة المستوطنات الإسرائيلية.. المبالغ التي يحصلون عليها أكثر مما يحلمون به ولكن الصعوبات والمشقات التي تواجههم أيضًا لم تكن يوما في الحسبان.. في السطور التالية تجد توثيقا للرحلة التي تبدأ من إحدي القري الفلسطينية وتنتهي داخل تل أبيب. نحن الذين بنينا إسرائيل.. هكذا قالها أحمد الذي مازال يعمل بشكل غير شرعي بإسرائيل، من وقت لآخر، منذ عام 1002 حتي الآن.. أحمد يحصل علي عائد مادي يبلغ أربعة أضعاف المبلغ الذي من الممكن أن يحصل عليه ببلدته نابلس. لقد سبق أن تم القبض عليه مع غيره من العمال غير الشرعيين حيث تعرض اثنان منهم للضرب من قبل الشرطة الإسرائيلية بينما ظل هو بالسجن لمدة خمسة أيام قبل أن يتم إطلاق سراحه. هو الآن متوقف عن العمل حتي تعود الأمور إلي مجاريها مرة أخري ومن ثم يمكنه العودة إلي هناك. لم يكن الوضع هكذا في الماضي، فلمدة 03 سنة لم يكن هناك حواجز تمنع الفلسطينيين من دخول إسرائيل للعمل في البناء والزراعة وغيرهما من المهام الشاقة. المفارقة أنه حتي منتصف التسعينيات كان حوالي 051 ألف فلسطيني يدخلون إسرائيل بشكل يومي أي حوالي خُمس العمالة الفلسطينية. بعد الانتفاضة الثانية تغير الوضع.. ومع ظهور الجدار العازل أصبحت الأمور أكثر صعوبة وبدأ عدد العمال المترددون علي إسرائيل في التناقص بشكل درامي. البنك الدولي سبق أن أشار إلي أن السياسات التي تتبعها إسرائيل من أجل التحكم في منافذها ومخارجها وحركة الدخول والخروج هي السبب في التدهور السريع الذي يعاني منه الاقتصاد الفلسطيني. وفي حين كان يملك الجيل الأقدم الفرصة لدخول إسرائيل بحرية تامة لم يعد أمام الجيل الجديد من العاملين الفلسطينيين سوي محاولة إعادة اكتشاف طرق قديمة كان يسلكها الأجداد والآباء في الخمسينيات. وفقا لاتحاد العمال الفلسطيني فإن هناك ما يقرب من 53 أو04 ألف عامل غير شرعي يحاولون بناء مستقبلهم علي الجانب الآخر من الجدار العازل. من نابلس إلي تل أبيب تعرف ليالي تل أبيب جيدًا تلك السيارة الصغيرة التي دائما ما تصدح منها وبقوة أشهر الأغاني العربية.. يملكها "حسن " الذي عمل لمدة 10 سنوات كخباز في أشهر المطاعم. وبالمناسبة فإن "حسن" هو أحد هؤلاء المتورطين في تزوير بطاقات الهوية للفلسطينيين حتي يمكنهم دخول إسرائيل. حسن يملك من رأس المال ما يكفيه لتأسيس عمل مستقل يخصه في "رام الله" وأن يترك تل أبيب التي قضي بها حوالي نصف عمره ولكنه دائما ما يقول "الإسرائيليون لا يستطيعون أن يعيشوا بدوننا ولا نحن نقدر أن نعيش بدونهم. حسن لا يتحرك بمفرده.. دائما يصطحب معه (صهره) شقيق خطيبته "إبراهيم " الذي يبلغ من العمر 21 عاما.. إبراهيم اعتاد الهروب إلي إسرائيل مما اسماه "المجتمع الفلسطيني المتشدد" منذ أن كان عمره 16 عاما.. حيث يذهب إلي هناك بحثا عن الملابس، والمتعة وعن وظيفة أيضًا. إبراهيم أو "جوزيف " وفقا لاسمه المرفق ببطاقة هويته الإسرائيلية قال لي: إن الثمن الذي يدفعه من يريد بطاقة إسرائيلية مزورة يتراوح بين 400 و 800 دولار ويتوقف ذلك علي عمر الشخص وصورته. وفقا لإبراهيم فإن هذه البطاقة تصلح فقط في حالة البحث عن الوظيفة لأن المقاول لن يضطر إلي الذهاب إلي الشرطة للتأكد من صحة المعلومات المرفقة بها. "إبراهيم " و "حسن " كلاهما من قرية صغيرة بالقرب من "نابلس"، ولكنهما الآن محاصران بليالي تل أبيب وبالإمكانات المحدودة التي من الممكن أن تمنحهما لهما بطاقات الهوية المزورة. علي بعد خطوات من القرية التي جاء منها الرجلان وفي قرية أخري كان يعيش "جلال" أحد العمال الفلسطينيين غير الشرعيين الذين لقوا مصرعهم أثناء محاولتهم العمل بإسرائيل.. حيث تلقي رصاصة في رأسه. "دير الحطب" هو اسم القرية التي جاء منها جلال.. وهي قرية صغيرة بالقرب من نابلس بالضفة الغربية.. وهي من القري المشهورة ليس فقط بزراعة الزيتون بل أيضًا بمقاومة الاحتلال أثناء الانتفاضة الأولي والثانية.. مازالت القرية تحمل بقايا وروائح الفوضي التي تخلفها الحرب. بعض رجالها في السجون، والبعض الآخر كان من المسلحين والمقاتلين.. حوائط القرية مغطاة ببوسترات للكثير من الشهداء محاطين بخلفية للمسجد الأقصي. الكثير من شباب هذه القرية أسماؤهم موجودة في ملفات خاصة لدي السلطات الإسرائيلية بسبب نشاطهم المسلح الأمر الذي يجعل دخولهم إلي إسرائيل أمرًا في غاية الصعوبة. جلال عودة هو أحد الذين تزين صورهم حوائط وجدران القرية حيث لقي مصرعه في 2006 علي يد قوات الدفاع الإسرائيلية عندما حاول سائق تاكسي كان يحمل بالسيارة عددًا من العمال غير الشرعيين تفادي العساكر عند نقطة التفتيش بمنطقة هوارة. "لقد حاول الشباب منعه ولكنهم لم يستطيعوا".. هكذا قالت لي "أم جلال " وهي تتذكر الواقعة. الجدير بالذكر أن عرب إسرائيل الذين يساعدون الشباب في دخولها يواجهون عقوبات تصل إلي غرامة مالية قدرها 2600 دولار أمريكي وفي أحيان أخري قد يضطرون إلي مواجهة عقوبة بالحبس لمدة 6 شهور في حال أن تكون هذه هي السابقة الأولي لهم. وبالمناسبة فإن قتل العمال غير الشرعيين واقعة نادرة الحدوث هناك. وآخر واقعة تم رصدها كانت مقتل "تيسير مناصرة " 28 عاما في بداية 2009 عندما اصطدم بكمين لقوات الجيش الإسرائيلي. إلا أن مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان بالأراضي المحتلة يؤكد أن كل عامل غير شرعي تعرض للايذاء البدني مرة واحدة علي الأقل. ومع وصول معدل البطالة بالضفة الغربية إلي 19٪، لن يتوقف الشباب الفلسطيني عن الذهاب إلي إسرائيل للعمل هناك. " لن يمتنع الناس عن الذهاب إلي هناك.. فهم ليسوا خائفين "... هكذا قال لي رمزي عودة شقيق جلال. وداع في الفجر يتسم وادي فاكين " علي بعد 8 كيلومترات من بيت لحم" الذي يقع علي مقربة من الجدار الحاجز الإسرائيلي بلياليه الهادئة.. وبلمعان الأضواء الآتية من المستوطنات الممتدة بامتداد الوادي. تستطيع أن تري بوضوح الجبال المحيطة بالوادي من كل جانب والمغطاة بالاسلاك الشائكة.. تستطيع أن تلمح أيضًا قوات الشرطة المتحفزة وطائرات الهليكوبتر المحلقة بالجو تراقب جميع مداخل ومخارج القرية.. . ولكنك أيضًا تستطيع أن تنتبه إلي وجود الطريق السري القديم الممتد علي مسافة 35 كم. "بسام" هو واحد من هؤلاء الأشخاص الذين قضوا معظم سنوات عمرهم في بناء المستوطنات، قبل أن تظهر تصاريح العمل وقبل اللجوء للطريق السري الذي يبعد 200 متر عن منزله. بسام نجح في إعادة بناء منزله وتجديده، بل في شراء سيارة فخمة، ووفقا لما قاله لي أصبح في يده الآن تصريح عمل نظرا لأنه يبلغ من العمر 35 عاما.. وأصبح لديه أسرة وسجل نظيف خالٍ من أي أزمات. تجدر الإشارة إلي أن الفلسطينيين متوغلون بكثافة في أعمال البناء الإسرائيلية، وهناك حوالي 12 ألف فلسطيني تم توظيفهم من قبل مقاولين عرب ويهود للعمل في بناء وتوسعة المستوطنات الإسرائيلية. الدخل الذي يحققونه يزيد 3 أضعاف عما يحصلون عليه في حال تعاونهم مع فلسطينيين، ومع ذلك تعتبرهم إسرائيل عمالة غير مكلفة ماديا. "بسام" لا ينسي بسهولة ذلك المشهد الذي يتكرر كل يوم تقريبا.. حينما يتكدس مئات من الرجال الذين يزيد عمرهم علي 35 سنة، قادمون من خلفيات دينية متنوعة في ممشي مسيج حيث يلقي عليهم النخيل بظله ويجمعهم هم واحد.. هو البحث عن لقمة العيش. غالبا ما ينتظر الرجال الذين يحملون تصاريح عمل تحت أضواء الجدار الكاشفة إلي أن يسمح رجال الشرطة لهم بالدخول فيبدأ الصف في التحرك بسرعة ملحوظة عن ذي قبل. أما هؤلاء الذين لا يسعفهم الصبر فيفضلون الدخول عبر الفتحات الموجودة بالسياج الخارجي. في ذلك التوقيت تبدأ القدس في الاستيقاظ.. أصبحت الساعة الرابعة صباحا.. علي "بسام" ورفاقه أن يكونوا بعملهم قبل السابعة صباحا علي أن يتركوه بالثالثة عصرًا لأنه ليس مسموحًا لهم بالمبيت هناك.. هذه هي القواعد الأمنية المتعارف عليها. تستطيع أن تجد بسام في مكان ما داخل الصف الطويل من العمال.. حولهم يافطات كثيرة تركها ناشطون سياسيون بعضها يقول "من أجل إسراطين الحبيبة ".. . والبعض يقول "السياسيون الأوغاد" بينما يقول البعض الآخر "إسرائيل تعيد مجازر برلين". هذه مجرد ملامح يوم عمل تقليدي لما يقرب من 26 ألف فلسطيني ممن يحملون تصاريح للعمل بإسرائيل. مرحبا بكم في إسرائيل يعد تقاطع "جيها "ب" تل أبيب" مكانًامزدحمًا بالنهار وبعد الظهر.. حيث يتوافد عليه العمال الفلسطينيون الذاهبون إلي أو القادمون من عملهم. تلك المنطقة أصبحت بمثابة منجم ذهب بالنسبة للسائقين المنتمين إلي عرب إسرائيل. في إحدي المرات سألني "خليل" إسرائيلي من جذور عربية درزية "هل تعلمين مقدار ما أحققه بشهر واحد؟.. . أكثر من 4000 دولار أمريكي".. وقتها كان واقفا وبجواره عشرات من السائقين في العشرينات من أعمارهم، جميعهم يرتدون ملابس أنيقة وحريصون علي حسن هندامهم. لا يتردد هؤلاء السائقون عن مساومة عمال بعمر آبائهم علي ثمن توصيلهم إلي نقاط التفتيش. أخبرني أحدهم ويدعي "خالد" "21 عاما من كفر قاسم " بأنه أحيانا يدقق النظر في العمال ويسألهم ما إذا كانوا يحملون تصاريح عمل أم لا.. وفي حالة وجود التصاريح تصبح الامور أكثر سهولة. أما في حالة عدم وجود تصاريح أي عندما يكون العامل ليس مصرحا له بالدخول تبلغ تكلفة الرحلة 50 دولارًا أمريكيا. بالطبع العمال الحاصلون علي تصاريح لا يدفعون نفس الثمن. المفارقة أن ثمن هذه الرحلة يتسبب في النهاية في أن يخسر العامل نصف ما يحصل عليه شهريا الأمر الذي يوضح مدي ارتفاع تكلفتها. الأمر يبدو كما لو أن العمال شكلوا فيما بينهم ما هو اشبه بتسلسل هرمي يتوقف وضع كل واحد منهم به علي المكان الذي عاش به كل منهم بعد 1948 و1967. اذكر أن أحمد وهو احد العمال غير الشرعيين قال لي ذات مرة " لا نستطيع أن نتجادل مع هؤلاء السائقين لأنهم ببساطة يستطيعون القيام بابلاغ الشرطة عنا ".. بينما قال لي "إبراهيم" الذي يعيش في إسرائيل بهوية مزيفة إنه يخاف من عرب إسرائيل أكثر مما يخاف من الإسرائيليين أنفسهم. رحلتا الشقاء والسعي عندما سألت "أحمد" الذي يبلغ من العمر 26 عاما عن السبب الذي يجعله يتحمل هذه المشقات قال لي "ليس لدينا وظائف هناك والوسيلة الوحيدة لكي تبني حياتك هي أن تذهب للعمل بإسرائيل.. نعم المسألة مليئة بالعديد من المخاطر ولكن هل هناك حل آخر"؟ الدخل الذي يحققه أحمد شهريا يصل إلي 790 دولارًا، و يضطر إلي المكوث بإسرائيل لمدة 5 أيام حيث يظل يبقي بموقع البناء الذي يعمل به. قبل أن يعود إلي بيته من خلال نفس الطريق السري. أحمد يدرس الآن لكي يصبح مدرسًا ولكي يتحقق ذلك عليه أن يعمل في مواقع البناء خلسة حتي تستقر الأوضاع من جديد. أحمد أخبرني عن الطريق السري الذي يسلكونه.. حيث يسافرون من سالم إلي نابلس ثم إلي رام الله وأخيرا إلي بيت لحم حيث يقومون بعبور الجدار العازل. قبل أن يبدأوا رحلة السير والتي تستمر لمدة 4 ساعات حتي يصلوا إلي إسرائيل.. وحينها يقوم سائقو عرب إسرائيل بنقلهم إلي "جيها " بتل أبيب حيث مواقع البناء والعمل. ما سبق كان مجرد توصيف للأسباب التي تدفع الفلسطينيين إلي العمل علي الجانب الآخر من الحائط العازل.. الرحلة شاقة ومكلفة ولكنها قد تكون السبيل الوحيد أمامهم أحيانًا. ملاحظة: كل الأسماء التي تمت الإشارة إليها في التحقيق هي لشخصيات حقيقية ولكن الأسماء جري عليها تغيير من جانب المحققة حرصًا علي أصحابها وبناء علي طلبهم.