علي خلفية جولة وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في المنطقة ولقاءاتها مع مسئولين عرب وإسرائيليين بينهم رئيس السلطة الوطنية "أبومازن" ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، يمكن ملاحظة وجود نوع من الفتور بين إدارة الرئيس باراك أوباما من جهة والحكومة الإسرائيلية من جهة أخري. هذا ليس تكهنا، نظرا إلي وجود وقائع تؤكد ذلك بالملموس. هل يتحول الفتور إلي مواجهة أم أن الإدارة الأمريكية ستتراجع كما جرت العادة؟ إلاّ اذا استثنينا عهد الرئيس ايزنهاور وعهد جورج بوش الاب، وعهد جيمي كارتر... إلي حٍدما. ما يمكن ان يدفع إلي ترجيح التراجع، دعوة الإدارة الأمريكية الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي إلي العودة إلي المفاوضات "من دون شروط مسبقة"، أي من دون إعلان حكومة نتانياهو ولو عن تجميد للاستيطان في الضفة الغربية. ولكن ما يشفع بالإدارة أن حكومة نتانياهو لا تريد التفاوض أصلا. أنها ضد فكرة المفاوضات من أساسها. ولذلك، أكدت تمسكها بالاستيطان بهدف إجهاض أي مفاوضات بشكل مسبق من جهة، ومنع الجانب الأمريكي، في مرحلة معينة، من طرح أي أفكار خاصة به لردم الهوة بين الجانبين من جهة أخري. هذا يدفع إلي تبرير طرح الإدارة للدعوة إلي مفاوضات "من دون شروط مسبقة"، حتي لو بدا انها تخلت عن ممارسة أي نوع من الضغوط علي إسرائيل في شأن الاستيطان الذي لا يمثل سوي تكريس للاحتلال، حتي لو بدت كأنها رضخت لنتانياهو وحكومته رضوخا كاملا. في الوقت ذاته، هناك ما يدفع إلي الاعتقاد بأن الإدارة لا تزال جدية في البحث عن تسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين تستند إلي خيار الدولتين، علي أن تكون مرجعية المفاوضات خطوط العام 1967 وليست حدود المستوطنات الإسرائيلية، وهو ما يسعي إليه نتانياهو ومعظم وزرائه. لعل أبرز دليل علي ان إدارة أوباما ليست في وارد التراجع فيما يخص المحتوي، حتي لو كانت تبدو وكأنها تراعي ارضاء إسرائيل شكلا، ثلاثة أحداث توالت منذ الخامس عشر من أكتوبر الماضي. كان الحدث الأول حضور الجنرال جيمس جونز مستشار الرئيس الأمريكي لشئون الأمن القومي العشاء الذي اقامته "مجموعة العمل الأمريكية من أجل فلسطين" في واشنطن وتأكيده باسم أوباما التمسك بخيار الدولتين مع التشديد علي ضرورة زوال "الاحتلال" الذي بدأ في العام 1967 . كان الحدث الثاني حضور جونز نفسه المؤتمر الذي نظمته مجموعة ضغط يهودية، تعارض سياسات نتانياهو وحكومته. تشكلت هذه المجموعة حديثا في واشنطن، اسمها "جي ستريت". هذه المجموعة التي تضم عددا لا بأس به من المثقفين اليهود في الولاياتالمتحدة بدأت حملة علي الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وتدعو صراحة إلي زواله وإلي قيام دولة فلسطينية مستقلة استنادا إلي خطوط العام 1967، وقد اثارت مواقفها سخط اللوبي الإسرائيلي والمنظمات اليهودية الأمريكية التي لا تتردد في تبني المواقف الإسرائيلية. لكن أوباما اصر علي استقبال ممثل ل"جي ستريت" لدي دعوته زعماء اليهود للاجتماع به في البيت الأبيض حديثا. وكان تضمين لائحة المدعوين ممثلا ل"جي ستريت" بمثابة إشارة في غاية الوضوح من الرئيس الأمريكي إلي انه علي استعداد لتحدي اللوبي الإسرائيلي بكل فروعه وكل المنظمات التابعة له بشكل أقل ما يمكن ان يوصف به أنه مكشوف. أمّا الحدث الثالث فيتمثّل في تعيين أوباما السيناتور المتقاعد تشاك هيغل رئيسا لمجلس استشاري لشئون الأمن والاستخبارات. مهمة هذا المجلس ليست ذات طابع تنفيذي، لكنه يقدم نصائح للرئيس الذي يستطيع أن يطلب رأيه في هذا الشأن الحساس أو ذاك. من هو هيغل؟ أنه سيناتور جمهوري تقاعد حديثا وهو معروف بمواقفه التي تستفز اليمين الإسرائيلي عموما واللوبي الإسرائيلي في واشنطن علي وجه الخصوص. ينظر هيغل إلي الذين يؤيدون إسرائيل في واشنطن بشكل اعمي بأنهم من ذوي الولاء المزدوج. وعندما كان لايزال عضوا في مجلس الشيوخ، سأله عضو في احدي المنظمات اليهودية لماذا لا يؤيد إسرائيل ما فيه الكفاية؟ أجابه علنا: "اني عضو في مجلس الشيوخ الأمريكي وليس في مجلس الشيوخ الإسرائيلي. عندما انتخبت، اديت قسم الولاء للدستور الأمريكي. لم اقسم علي أن يكون ولائي لا لرئيس ولا لحزب ولا لإسرائيل". فضلا عن ذلك، يتخذ هيغل الذي سعي في الماضي إلي أن يكون مرشح الحزب الجمهوري للرئاسة، موقفا واقعيا من إيران إذ يقول في هذا المجال: "احببنا ذلك أم لا، لن يكون هناك سلام واستقرار في الشرق الأوسط من دون مشاركة إيران". ثلاثة احداث ملفتة تكشف أن أوباما يتصرف بطريقة مختلفة جذريا عن سلفه جورج بوش الابن. أكثر من ذلك، تظهر هذه الأحداث وأخري غيرها من نوع مقاطعة المسئولين الأمريكيين مؤتمرات يعقدها مؤيدون لإسرائيل، أن الرئيس الأمريكي يشعر بانه ليس مدينا بشيء لليهود المتطرفين في الولاياتالمتحدة نفسها أو في إسرائيل. هل في استطاعته الاستمرار في سياسته، ام أن الوقت يعمل ضده؟ من الصعب الاجابة عن السؤال، إلاّ ان الملفت ان كل الذين يعرفون باراك أوباما عن كثب يؤكدون أنه شخص صلب يمتلك ارادة قوية كما يعرف تماما إلي اين يريد أن يصل. من الواضح أن الرهان الإسرائيلي علي انه سيكون عاجلا أم آجلا في مكان آخر بعيدا عن خيار الدولة الفلسطينية "القابلة للحياة". سيكون غارقا إلي ما فوق اذنيه في أفغانستان وباكستان والعراق والملفات الإيرانية الساخنة في مقدمها الملف النووي. من قال إن التطرف في المنطقة الممتدة من أفغانستان إلي موريتانيا، مرورا بإيران والعراق ولبنان وفلسطين حيث اقامت "حماس" إمارتها الطالبانية، ليس الحليف الأول لإسرائيل؟