أولاً أودّ أن أشير إلي أنَّ الإنسان كما يحتاج إلي مَنْ يُحبه. ويضفي عليه سامي عواطفه. وجميل مشاعره. هو في حاجةي إلي مَن يبغضه ويصبّ عليه جام غضبه وشديد بغضه. وسائر المشاعر السلبيَّة لديه. وينسبه إلي كل الرذائل. وينسب كل الرذائل إليه» ولذلك فإنَّ الله -تبارك وتعالي- أمرنا أن نتّخذ الشيطان عدوًّا نصبّ عليه غضبنا. وسائر المشاعر السلبيّة لدينا» لأنَّه أصل كل منقصة. ومصدر كل رذيلة. فهو مَنْ يأمرنا بالسوء ويحرّضنا عليه ويدعونا للوقوع فيه. ومَنْ لم يتّخذ الشيطان عدوًّا فلابد له من عدوّي آخر. وهذا العدو الآخر قد يكون ممّن لا يستحق عداوته. ولا ينبغي له أن يُفرغ مشاعره السلبيّة عليه. ولكن تلك طبيعة الإنسان. ومن أوسع أودية الباطل والخصومات بين الناس "الغلو". والغلو أن يبالغ الإنسان في شيء ويغلو به. فإذا بلغ الإنسان في شيءي مستوي المغالاة فإنَّه يرمي كل مَنْ أنكر عليه أو حاول ردّه إلي الاعتدال. أو دعاه إلي الرجوع إلي الحق "اتخذه عدوًّا". وإذا فشي هذا النوع من الغلو وانتشر في أُمَّةي فإنَّه يسوقها نحو الهلاك. إنَّ المغالي لا يطيق سماع كلمة الاعتدال أو الحق أو الوسط. إنَّه يُسمع نفسه ما تريد فيمَنْ يحب. ويُسمع نفسه ما تريد فيمَنْ يبغض. ويرفض الإنصات إلي أيّ أحدي آخر. والمعتدلون قد يجدون في جرأة أهل الغلو وسلاطة ألسنتهم وإقدامهم علي تجريح مخالفيهم ما يدعوه إلي الانكماش والانطواء. ويُثبّطه عن الإنكار» وآنذاك يخلو الجو للشيطان ليلعب في عقل ذلك المغالي وقلبه ونفسه. ويسوقه نحو الهلاك ونحو تدمير مقوّمات الاعتدال والوسط في مجتمعه وفي أُمَّته. والمسلمون والمسيحيّون في العراق وفي الشام وفي مصر والسودان والبلدان المغاربيَّة وغيرها عاشوا مع المسلمين جنبًا إلي جنب. ولقد اختبر المسلمون في منطقتنا وزلزلوا زلزالاً شديدًا أثناء حروب الفرنجة التي استمرت مانتي عام. ومع أنَّ الفرنجة قد سمّوا تلك الحروب بالحروب الصليبيَّة» طمعًا في كسب نصاري المنطقة. وتحويلهم إلي طابوري خامس -كما يُقال- لكنّهم لم يفلحوا ووجدوا من نصاري المنطقة رفضًا. بل زادهم ذلك التصاقًا بالمسلمين جيرانهم وإخوانهم. وقاتل كثيرون مع المسلمين أولئك الغزاة الذين جاءوا ليحتلوا البلاد ويسبوا العباد ويسيطروا علي القدس وما جاورها من أرضي بارك الله حولها. والمسلمون عرفوا لجيرانهم ذلك الحق. واعتزوا به. ولم ينظروا للمنتمين إلي هذه الديار إلا نظرة إخاء ومودة. فبادلوهم صداقة بصداقة. وولاء بولاء. ووفاء بوفاء. وقد استمرت الوحدة قائمة رغم تلك الأعاصير وذلك التحدي الكبير. وحين حدث الاستعمار. وانتُهكت ديار المسلمين. وحاول المستعمرون أن يجدوا ثغراتي -مثل ثغرة اختلاف الدين- لينفذوا منها. لم يجدوا إلا عددًا قليلاً وفي بلداني معيّنة. ليس منها مصر ولا بلاد الشام. ومع ذلك فقد كانت هناك أدبيّات تظهر بين الحين والآخر في ظروفي تاريخيّة معيّنة يغلب أن تكون ظروف حروب وتوتر واختلاف وغزوي خارجي. تظهر أدبيّات لا تخلو من ثقافة كراهية. تعمل علي زرع الحظر والخوف. بحيث يبدأ الأخ في الحذر من أخيه والشك فيه. وتبدأ الروابط التي كانت وثيقة في الانهيار والتآكل» لتفسح مكانها لأنواعي من البغضاء وانعدام الثقة ومشاعر الشك. لتحقق للشيطان وأعوانه أهدافهم في تفكيك الروابط وإغراء بعض الناس في البعض. ففي مرحلةي من المراحل كتب الشيخ ابن تيميّة -يرحمه الله- كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أهل الجحيم". وكتب بعض الناس كتاب "الصواب في قبح استكتاب أهل الكتاب". وكتب ثالث "النهي عن الاستعانة والاستنصار في أمور المسلمين بأهل الذمة والكفار". وقد عُنيتُ في فترةي زمنيّة معيّنة بتتبع هذا النوع من الكتابات. فوجدتها كتاباتي وأدبيّاتي تصدر عن كتّاب من مختلف الطوائف داخل الكيان الاجتماعي الواحد» لتحذير طائفة من الطوائف الأخري. أو بذر بذور الشك وإيجاد أزمة ثقة بين مكوّنات كياني واحد» ولذلك فقد اعتبرت تلك الكتب والدراسات -سواء صدرت عن علماء مسلمين أو كتّاب من النصاري أو غيرهم- أنّها أدبيّات مرحلة معيّنة أملتها ظروفى جعلت كل طائفة تحاول أن تحيط نفسها بحاجز نفسي يفصل بينها وبين طوائف المواطنين الأخري. وأنَّ هذه الأدبيّات حين تُقرأ خارج سياقها الزمنيّ والتاريخيّ فإنّها تؤدي إلي إيجاد ثقافة غلوّي ورفض الفئات الغالية بما يسوّغ لها غلوّها فيما هي عليه. وربما يسوّغ لها أن تضطهد الطوائف الأخري وتجور عليها إذا كانت في موضع القدرة. وذلك كفيلى بتفكيك الكيانات. وتدمير الدول. وإعانة الشيطان علي الإنسان بدفعه إلي الفتنة والدخول في مجالات الاحتراب. إنَّه ما من بلدي من بلداننا العربيّة والإسلاميّة إلا وفيه أقليّاتى دينيّة أو مذهبيّة أو عِرقيّة أو سواها. يجمع الجميع في هذه الحالة "كلكم لآدم. وآدم من تراب". و"لا فضل لعربي علي أعجمي إلا بالتقوي". فتصبح الأمّة مطالبة بإيجاد ثقافةي تثقّف أجيالها بها من رياض الأطفال إلي أعلي المستويات. تقوم علي مبدأ ¢كلكم لآدم وآدم من تراب¢. وعلي مبدأ ¢يا أيها الناس...¢. ومبدأ ¢ادخلوا في السلم كافة¢. ومبدأ ¢دعوا العصبيات فإنّها منتنة¢. ثقافة تستطيع -بما تشتمل عليه من مكوّنات- أن تُخرج الناس من ظلمات الغلوّ والتعصُّب إلي نور الاعتدال والتآخي. ثقافة تنظر للإنسان علي أنّه بحق لأيّ إنسان آخر في الإنسانيّة والآدميّة. وأنّه لا يقلل من قيمة الإنسان إلا انحرافاته الأخلاقيّة والسلوكيّة. وطرائق تعامله مع الآخرين ونظرته إليهم. واستعلاؤه عليهم واستبداده بشأنهم. فإذا لم يكن علي هذه الصورة فاختلافاتنا الأخري معه -في اللغة أو العرق أو المذهب أو الدين- اختلافات تنوّع لا تضاد. تقتضي مزيدًا من الفهم من كلي لسواه. ومزيدًا من الوعي. ومزيدًا من التقوي والبر. إنّ منطقتنا العربيّة بالذات تواجه تحديًا في غاية الخطورة. وهو تحدي يحتاج إلي طاقات الأُمَّة كلها ووعي الأُمَّة جميعها بما يُدبّر ويُحاك ويُهيأ لها. فهناك كيانى غريب تم زرعه في هذه المنطقة كرهًا. فحُمِل كرهًا ووُلِد كرهًا وعاش كرهًا. هذا الكيان قد وُلِد ولادةً قيصرية شائهة. وُلِد وهو يعتقد أنَّ أمنه وسلامته. بل وحياته ووجوده. لا يمكن تحققها. أو حمايتها بعد تحققها. إلا بتفريق مَنْ حوله وتمزيقهم. وإثارة الفتن بينهم. وإيجاد الفوضي بأنواعها. خاصةً تلك التي يُسمّيها ب"الخلّاقة". فتلك كلها بالنسبة له أمورى لابد منها لكي يستطيع أن يحيا حياةً تستجيب لطموحاته وتلبّي له احتياجاته. فإن لم يعِ الجيران المحيطون بهذا الكيان لهذه الحقيقة فسوف يُصدّر إليهم -بأخبث الوسائل وأخطر الأساليب- المشكلة تلو الأخري. مستغلاً أجواء التوتر. مسخّرًا الغلو والأحقاد والغفلة عن الشياطين لينفث سمومه تحت شعارات مختلفة وبأسماء مختلفة. إنّ كياناتنا الاجتماعيّة هذه أحوج ما تكون إلي تحصين جبهاتها الداخليّة. وحمايتها من أي اختراق خارجي مهما يكن. والمخترِق هذه المرة شيطانى إنسيّ. يتعاون مع شيطان آخر ليفسد كل شيء. فهم يسعون في الأرض فسادًا. لا يرقبون في أحدي إلًّا ولا ذمّة. لم يتركوا لنا وطنًا واحدًا آمنًا مستقرًّا. يسعون لتدمير الجميع. ولا يمكن مواجهة هذا الخطر إلا بإعادة بناء كياناتنا الاجتماعيّة وتعزيز وحدتِها. وتحصين جبهاتها كلها. والحيلولة دون أيّة عمليّة اختراق يريد هؤلاء القيام بها واستثمارها. إنَّ ما حدث للكنائس العراقيّة. وما حدث في الاسكندريّة. وما قد يحدث في أي بلدي آخر صادرى عن مصدري واحد. هو صاحب المصلحة في كل ما حدث وما قد يحدث» ولذلك ينبغي أن توجّه جميع المشاعر السلبيّة نحو ذلك المصدر الحقيقيّ. إنَّ الهياج لن ينفع في معالجة هذه الأحوال. فالهياج يحوّل الأمر إلي نوعي من مصارعة الثيران. فالثور قويّى ولا شك. وهو أقوي من المصارع دون ريب. ولكنّ المصارع -بحكم إتقانه لمصارعة الثيران وخبرته وتجاربه- يجعل الثور بعد أن يُهيّجه ويتجه نحو الخرق التي يفردها أمامه. وهي خرقى لا قيمة لها. ولا يستطيع الثور أن ينتقم من المصارع بنطح تلك الخرق التي ينشرها. والمصارع -في النهاية- سوف يجعل قوي الثور تخور. ويوصّله إلي مستوي الانهيار. ثم يجهز عليه ويعلن انتصاره. مع أنّ الثور -من حيث القوة الجسديّة- أقوي بكثير من ذلك المصارع. فلو استطعنا -في ظروف المحن كتلك- أن نوجّه الهياج والغضب باتجاه مَن يستحقه. وباتجاه مَن دبّر الفتنة وأثارها -لا باتجاه الخِرَق التي يفردها في وجه الثور لينطح بها- لاستطعنا أن نوقف هذه المحاولات. ونحرم هؤلاء الأعداء والخصوم من أن يسجّلوا علينا أي انتصار لا يستحقونه. إنَّ المستفيد من تدمير الروابط بين المسلمين والنصاري في بلادنا العربية هو الكيان الطارئ. المزروع كرهًا. والموجود كرهًا. فلا ينبغي أن نخسر عدّة مرات» فنخسر وحدتنا ونخسر في عمليّة الاهتداء إلي مثيري الفتنة ومدبري المشكلات لكياناتنا العربيّة المسلم. تعازينا إلي ذوي الضحايا في بغداد والموصل والإسكندرية وغيرها. سائلين العليّ القدير أن يُجنّب مصر العزيزة وسائر بلاد المسلمين وسائر البلاد العربيّة الفتنَ والمحنَ وعوامل التمزّق. إنّه سميعى مجيب.