أعادت الأزمة الاقتصادية العالمية مفهوم "الدولة"، وحدود "السيادة" المرتبطة بهذه الدولة، إلي الواجهة من جديد ، حيث أثيرت في الشهور القليلة الماضية وتحت وطأة هذه الأزمة، العديد من القضايا والتساؤلات في الشرق والغرب ، حول مستقبل الرأسمالية واقتصاد السوق، وتدخل الدولة "الحارسة" مرة أخري لضبط السوق. وفكرة الدولة بالمعني الحديث، تتعارض مع الحلم القديم لفكرة السيادة العالمية في طابعها المثلث : الروماني والمسيحي والجرماني. وهي تقوم علي إقليم له حدود ثابتة نسبيا، وهي مكلفة بالسكان الذين يقطنونها، وهي في النهاية ذات سيادة -Sovereignty-، لا تخضع من حيث المبدأ لأي سلطة أعلي، وتعترف بها الدول الأخري بهذه الصفة. وحسب الفيلسوف الانجليزي توماس هوبز -Hobbes- (1588 - 1679) فإن أساس الدولة يكمن أولاً في قدرتها علي ضمان السلم المدني بين المقيمين تحت سلطتها وحمايتهم من أي معتد خارجي. أما عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر -Weber- (1866 - 1945) فقد رأي أن للدولة الحديثة حق احتكار العنف والقسر المادي المشروع، وهي وحدها التي تحتفظ بحق القيام بأعمال الشرطة في الداخل والحرب في الخارج. وفقًا لذلك فإن الدولة تتألف من عنصرين رئيسيين هما: المجتمع -Societas- أو ما كان يسمي عادة المجتمع المدني -Societas Civilis-، وهذا المجتمع يوجه إلي تحقيق الغايات التي من أجلها يضطر الناس إلي أن يعيشوا مجتمعين أي معًا. والسلطة العليا ذات السيادة التي تحكم هذا المجتمع، وتسمي الجلالة-Majestas-، وسلطة العليا -Summa Potestas-، والسيادة -Supremetas- (Sovereignty). ومنذ القرن السابع عشر جري مداد كثير حول تعريف معني السيادة، والكلمة (Sovereignty) اشتقاقًا جاءت من (Super + regnum) أي الحكم الأعلي أو الذي لا يعلي عليه، وبالتدريج أضيف إلي هذا المعني معني المطلق والأوحد في تعريف السيادة في الدولة الحديثة. وهكذا ارتبطت الدولة الحديثة بمفهوم السيادة أو قل إن مولد الدولة الحديثة ليس سوي: نشوء مفهوم السيادة وقبوله النهائي. علي أن تفهم السيادة هنا بالمعني الزمني لا الروحي، فالتحول التاريخي الذي صاحب ظهور الدولة في شكلها الحديث تمثل أساسًا في تغير مفهوم مصدر السيادة، من الله إلي الإنسان في صورته الفردية أو في صورته الجماعية أو في صورته الأكثر تجريدًا وهي الإنسانية. وهذه السيادة تتأكد في الميدانين الداخلي والخارجي معًا وفي وقت واحد. فالدولة هي الحكم الأعلي في الصراع الدائم بين جميع القوي الاجتماعية المختلفة، ولا يخضع سلطانها من الوجهة المادية أو الأدبية لأي سلطة أخري، سواء تعلق الأمر بتنظيمات نقابية أو لطوائف دينية أو بجماعات مهنية أو سياسية، كما تتميز الدولة أيضًا في الجماعة الدولية بمستوي عال من الاستقلال والحرية في التصرف. والدولة بوصفها سلطة ذات سيادة تعرف أيضًا بأنها سلطة شرعية. وهكذا أصبح مبدأ الشرعية هو المظهر الروحي للسيطرة، والظاهرة الأخلاقية للإكراه. ومع ذلك فقد انطوي مفهوم السيادة -Sovereignty- ذاته علي مفارقة لازمته علي مر العصور حتي اليوم. فهو يعني ضمنيا ادعاءً مزدوجًا: الاستقلال في السياسة الخارجية والاختصاص الحصري في الشئون الداخلية. فالسيادة الداخلية تشير إلي سلطة عليا لصنع القرارات وتنفيذها بالنسبة لإقليم وسكان معينين، ومن جهة أخري تشير السيادة الخارجية إلي نقيضها: عدم وجود سلطة دولية عليا، وبالتالي استقلال الدول ذات السيادة، أي أن مبدأ السيادة يؤدي بالضرورة إلي الفوضي الدولية. ففكرة وجود سلطة عليا ضمن الدولة تؤدي منطقيا إلي انكار وجود كيان فوق الكيان السيادي للدولة. من هنا فإن تاريخ نظام الدول الحديث (أي تاريخ السيادة) بدءًا من القرن السابع عشر، ما هو إلي تاريخ المحاولات التي بذلت لإيجاد نوع من التوازن أو المساواة السيادية بين الدول. ويبدو أن مكمن الخطأ يتمثل أساسًا في (المطابقة) بين سيادة الدولة وبين قدرتها علي أن تفعل ما تشاء.. فالقول بأن الدولة ذات سيادة لا يعني بالمطلق أنها تستطيع أن تفعل ما يحلو لها، أو أنها متحررة من تأثير الآخرين، تستطيع الحصول علي ما تريد وقتما تريد. فقد تكون الدولة ذات السيادة مضغوطة من كل الجوانب، كما هو الحال في الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة، ومضطرة لأن تتصرف بطرق كانت تود أن تتلافاها، لكنها لا تستطيع أن تفعل ماتريده، بالضبط. إن سيادة الدولة لا تنطوي مطلقًا علي انعزالها عن آثار أفعال الدول الأخري. فليس هناك تناقض بين أن تكون الدولة ذات سيادة وأن تعتمد علي الآخرين وتتأثر بهم في نفس الوقت. فنادرًا ما تعيش الدولة ذات السيادة حياة حرة سهلة . وبمعني آخر: فإن القول بأن دولة ما ذات سيادة يعني فقط أنها تقرر لنفسها بشكل (نسبي) كيف تعالج مشكلاتها الداخلية والخارجية. داليوم يعتبر كثير من الباحثين والمنظرين السياسيين أن مبدأ السيادة ليس معاكسًا لتطور النظام الدولي فحسب، بل أنه مضلل أيضًا، لأن جميع الدول وبموجب الاتفاقيات الدولية أصبحت مخترقة بصورة أو بأخري.. ويجادلون بأن التطورات الاندماجية (التكاملية) مثل الاتحاد الأوروبي، والعملية برمتها المقترنة بالاعتماد المتبادل والترابط والتداخل المعقد في عصر العولمة، جعلت ممارسة السيادة تنطوي علي مفارقة تاريخية أكثر تعقيدًا.