في الحلقة السابقة عرفنا كيف تم تعيين جون بادو سفيرًا للولايات المتحدةبالقاهرة بناء علي ترشيح شخصي من الرئيس الأمريكي كينيدي عام 1961 الذي قابله قبل سفره إلي مصر لتلقي تعليماته الأخيرة، بادو كان قبل ذلك في الأربعينيات رئيسًا للجامعة الأمريكيةبالقاهرة ولذلك فإن خبرته واتصالاته مع المصريين كانت واسعة، واستمرت هذه العلاقة لأكثر من عشرين سنة. يتذكر بادو كيف تم تلقينه حول الشرق الأوسط والسياسة الأمريكية تجاه مصر قبل سفره إلي القاهرة، وكيف تنقل من مكتب لآخر داخل الخارجية والبيت الأبيض، ولكنه يؤكد أنه لم يتلق أي تلقين مهم حول السياسة الأمريكية من جانب البيت الأبيض حتي قابل الرئيس كينيدي نفسه. وفي هذه الفترة حدثت تغيرات واسعة في المناصب العليا داخل الخارجية الأمريكية المتعلقة بالشرق الأوسط، إذ عين فيليبس تالبوت مساعدا للوزير لشئون المنطقة، الذي قام بعد ذلك بزيارات متعددة للقاهرة لمقابلة الرئيس عبدالناصر حول موضوعات محددة. بالنسبة لعلاقاته كسفير بالقاهرة بكبار موظفي البيت الأبيض لم تكن لبادو علاقة مباشرة مع ماكجورج باندي مساعد الرئيس كينيدي للأمن القومي، ولكن مع روبرت كومر المختص بالشرق الأوسط والذي خدم كينيدي ومن بعده الرئيس جونسون بعد اغتيال كينيدي وحاول جاهدًا تبصير جونسون بمخاطر الانسياق إلي سياسة مؤيدة لإسرائيل علي طول الخط وأرسل له عدة مذكرات عديدة موجودة في أرشيف الأمن القومي الأمريكي، ولكن جونسون كان قد باع نفسه تقريبًا لأنصار إسرائيل. كومر زار القاهرة عدة مرات خلال فترة عمل بادو وتبادل معه الرسائل والرأي. عندما سأله المحاور من جانب مكتبة كينيدي عام 1969 عن علاقاته مع ماير فلدمان الذي كان معروفًا أنه حلقة الوصل بين البيت الأبيض وإسرائيل واللوبي الإسرائيلي في الولاياتالمتحدة وخاصة خلال عهد جونسون، أجاب بادو بأن ذلك حدث مرة واحدة خلال حرب اليمن حينما كانت القوات المصرية هناك، إذ خلال زيارة له لواشنطن للتشاور عقد اجتماعًا ضمه مع كومر وفلدمان، حيث سأله الأخير وانتبهوا معي عن التأثيرات المحتملة لاستمرار تواجد القوات المصرية في اليمن علي القدرة العسكرية المصرية تجاه إسرائيل لأن عبدالناصر في ذلك الوقت كان قد سحب جزءًا مهمًا من القوات المصرية في سيناء وأرسلها إلي اليمن. وصف بادو علاقاته مع بوب سترونج رئيس إدارة الشرق الأدني بالخارجية الأمريكية بأنها كانت ممتازة، هذه الإدارة كانت تختص بمنطقة واسعة من الهند إلي شمال أفريقيا، وعن طريقه كان يتم اتصال بادو مع تالبوت نائب الوزير. كان سترونج يزور القاهرة مرة علي الأقل كل عام وانتهي به الأمر بأن عين سفيرًا في بغداد. وبالمناسبة أخذنا في مصر بتشكيل هيكل الخارجية الأمريكية وأتذكر أنه في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي كانت الثورة المصرية معجبة جدًا بهذا التنظيم. ويتذكر بادو كيف أن سفراء أمريكا في الشرق الأوسط كانوا يعقدون كل صيف اجتماعًا مشتركًا في قبرص برئاسة تالبوت، وشارك في أول اجتماع عام 1961 حيث كانوا يستعمون مباشرة لأول مرة عن سياسة لواشنطن في المنطقة. في اجتماعي عامي 1963 و1964 شغل الاجتماع نفسه كثيرًا بأوضاع اليمن وخاصة أن هذا الموضوع كان متعلقًا بالعلاقات المصرية الأمريكية وبالذات برنامج PL480 الذي كان مخصصًا لتزويد مصر بمساعدات غذائية مقابل جنيهات مصرية توضع في صندوق خاص للانفاق علي المشروعات الأمريكية في مصر. وفي هذه الفترة كانت هناك معارضة لتجديد البرنامج لمصر، ولكن في النهاية تمت الموافقة علي ذلك بتدخل شخصي من كينيدي نفسه والخارجية الأمريكية. ولكن أفضل ما جذب بادو إلي هذه الاجتماعات هو الفرصة التي أتيحت له لعقد لقاءات جانبية مع زملائه السفراء في المنطقة حيث كان يتناقش معهم حول أوضاع البلاد التي يعملون فيها وكيف يمكن التنسيق فيما بينهم. فيما يتعلق بالسياسية الأمريكية تجاه مصر والشرق الأوسط يقول بادو إن تعريف الشرق الأوسط كلمة هلامية غير محددة، ومن الصعب اتباع سياسة واحدة تجاه كل المنطقة، ولكن مسئوليته كانت مصر في المقام الأول: مثلاً وهو أمر لمسته من التعامل مع زملاء دبلوماسيين أمريكيين لم يكونوا يبخلون علي بمعلوماتهم إلي حد ما طبعًا فإن أي برقية ترسل من السفارة إلي واشنطن يتم توزيعها علي جهات محددة سلفًا، وهنا إذا كنت ذكيا يجب أن تبحث عما إذا كان هناك شخص ما، في إدارة ما هو أكثر المسئولين تأثيرًا علي توجهات السياسة الخارجية، وقد يكون في وزارة الدفاع أو وكالة المخابرات المركزية أو في الخارجية نفسها. ولكن ليسوا هم غالبًا من ترد أسماؤهم علي رأس قائمة الذين توزع عليهم هذه البرقية أو التقرير. وإذا ما أدركت ذلك فإنك تحرص علي أن تحافظ علي علاقات وثيقة معهم. فإذا كانت لديك دراسة تتضمن اقتراحات معينة ما فإنك ترسلها ومرفق بها قصاصة صغيرة منك تقول مثلاً: عزيزي بيل، أعتقد أنه يجب عليك قراءة الرسالة المرفقة لأنها تتناول مشكلة صعبة، وبهذه الطريقة فإن أفكارك واقتراحاتك تنال الاهتمام الذي ترغبه. العامل الثاني هو أن تكون لديك القدرة في رأي بادو علي التنبؤ بما قد يحدث. وأعتقد هنا كدبلوماسي مصري سابق أن هذه الخاصية مهمة جدًا ليس لأنك عبقري زمانك أو نابغة أو ساحر له كرة بللورية، ولكن الأمر يتعلق بالدراسة المتأنية وجمع المعلومات واستشارة أكبر عدد من الناس وفي النهاية أن يكون لديك حدس يساعدك علي التنبؤ. البعض يتنبأ بطريقة خالف تعرف، أي أن كان تنبؤك ليس مألوفًا وحدث بالفعل ما قلته سيقولون عنك أنك عبقري ولكن إذا خاب تنبؤك فستنضم إلي عشرات آخرين يفشلون في عملية التنبؤ هذه، لاحظت خلال عملي الدبلوماسي أيضًا أن البعض يعطي تنبؤات معينة وعكسها تمامًا في نفس الوقت، في حالة فشل إحداها يقول إنني أصبت في الأخري وهكذا. ويري بادو وذلك حقيقة الآن أكثر من أي وقت مضي أن سرعة وسائل الاتصال أصبحت عقبة أمام الدبلوماسي بدلاً من أن تكون أمرًا مساعدًا له حيث أصبح الدبلوماسي يعيش حياته يومًا بيوم ولا يكون لديك وقت كافٍ للتأمل. ويقول بادو إنهم حاولوا في سفاراتهم أن يفعلوا مثل المصريين الذين يقولون: إنهم يشمون الهوا، بالقول في تقاريرهم إن السفارة تعتقد أنه بالنسبة لموضوع معين ستظهر عقبات خلال خمسة أو ستة أشهر وقد يكون ذلك في فترة أقصر. وبعد ذلك تتفرغ السفارة لصياغة تقارير مختصرة تتعلق بالمشكلة نفسها ترسل إلي الجهات الرسمية وغير الرسمية في واشنطن. وإذا لم يحدث شيء، فلن يحدث شيء، ولكن إذا ما حدث شيء فقد اكتشف بادو أن هناك نتيجتين مثيرتين لهذه العملية من التنبؤ المسبق. فرجال الخارجية تمامًا مثل الصحفيين ناس كسالي فهم يستخدمون ما لديهم بالفعل من تقارير مكتوبة بدلاً من كتابة تقارير تحليلية من جانبهم، وهذه هي الطبيعة البشرية. وعلي هذا الأساس إذا كانت لديك مثلاً مذكرة طيبة في الملفات فإنك تعتمد عليها. الأمر الثاني هو أنه إذا ما استشار مسئول ما في واشنطن تقاريرك لمدة ثلاثة أشهر فإنه لا ينسبها إليك بل يقول إنها من أفكار وإعداد من قرأها. ولذلك اكتشف بادو أنه كثيرًا ما تلقي تعليمات محددة من واشنطن سبق أن ضمنها هو في تقارير سابقة لسفارته. وللحديث بقية