في حلقات سابقة روي لنا جون بادو سفير الولاياتالمتحدة في القاهرة أثناء عهد الرئيس كيندي كيفية تعامله من القاهرة مع رئاسته في واشنطون وخاصة في الخارجية الأمريكية، جون بادو كان معروفا لدي أوساط مصرية عديدة حيث عمل رئيسا للجامعة الأمريكية في مصر لسنوات طويلة قبل تعيينه سفيرا بها. في هذه الحلقة يتحدث بادو عن المشاكل بين الولاياتالمتحدة ومصر التي وجدها عند تسلمه منصبه في القاهرة، يقول إنه بالفعل لا يتذكرها فقد اعتبرها منتهية وعليه بداية صفحة جديدة، ويتذكر هنا أن الرسائل التي كانت ترسلها سفارته كل يوم إلي واشنطون كانت تتنافس مع آلاف الرسائل التي تتلقاها الخارجية الأمريكية كل يوم من مختلف أنحاء العالم، ولذلك فإن الرسالة التي تسترعي الانتباه لا تعتمد فقط علي المضمون وهو أمر مهم بالفعل، ولكن أيضا علي طريقة صياغتها، وهذا أمر جوهري بالنسبة للمختص الذي سيقرأها في واشنطون. يقول بادو إن العلاقات بين القاهرة وواشنطون توقفت بعد حرب السويس عام 1965، ولذلك وجد عند وصوله إلي القاهرة عام 1691 أن هذه العلاقات بدأت تخرج من حالة التجمد التي اعترتها، ومع ذلك كان هناك قدر كبير من الشكوك بين الجانبين تجاه الآخر، ولذلك فإن أول مهمة له كانت هي استعادة الثقة بينهما، أهم المشاكل مع مصر في رأيه هي أن واشنطون كانت لها أكثر من سياسة نحو القاهرة، في حالة الثورة المصرية مثلا، فإن العامين الأولين من الثورة (2591 4591) كانت هذه العلاقات تمر بما يمكن تسميته بشهر العسل، وبعد ذلك جاءت ما اسماها بادو حادثة السويس حيث كانت سياسة واشنطون هي العمل علي عزل مصر عن جيرانها وغالبا محاولة اسقاط عبدالناصر، لم تنفع هذه السياسة التي ورثها عن سلفه. واجه بادو معضلة كبيرة هي كيف يمكن العودة بالعلاقات بين البلدين إلي دفئها السابق، ووراء هذه المسألة كانت هناك تصورات مسبقة في كل جانب عن الآخر أثرت سلبيا علي العلاقات بينهما، التصور المصري عن الولاياتالمتحدة هو الاعتقاد أن الحكومة الأمريكية متأثرة بالصهيونية تماما وكل ما تفعله هو موال لإسرائيل، إضافة إلي ذلك كان هناك عدد كبير من الشخصيات في الولاياتالمتحدة الذين ببساطة يعتبرون عبدالناصر ما هو إلا عميل شيوعي وأن كل ما يفعله شر، ولذلك توجب عليه أن يتعامل مع هذه التصورات والاعتقادات المسبقة وهو أمر كان في منتهي الصعوبة في ذلك الوقت خاصة فيما يتعلق بتعاملك مع حكومتك علي بعد ثمانية آلاف ميل من القاهرة، قد تكون أكثر صعوبة من التعامل مع حكومة البلد الذي أنت معتمد فيه. هذه الأوضاع كانت هي ما اسماها بادو بظهور أزمة الثقة عدة مرات، ولو أنه يعتقد أنه نجح بصفة عامة في إعادة الثقة بين البلدين، عندما قابل الرئيس عبدالناصر لتقديم أوراق اعتماده ولم يكن يعرفه من قبل إلا قليلا، جري بينهما حديث طويل فحواه كما يلي: انظر، لماذا يجب علينا أن نبدأ كل حديث بيننا بالخلاف حول فلسطين، لن نقوم بتغيير سياساتنا أو اتجاهاتنا وأنتم أي مصر - لن تغيروا من سياستكم نحن نقر هذا الأمر إذاً لما لا نضع ذلك في الثلاجة ونكرس أنفسنا للنقاط ذات المصلحة المشتركة بيننا، ويضيف أنه فوجئ بموافقة عبدالناصر وقبل نهاية فترة خدمته مع كيندي فإن الأخير لم يكن منحازا ضد مصر أو في مواقفه تجاه عبدالناصر، وإن كان لم يحبه أو يكرهه، ولكن لم يسمح للتصورات المسبقة أن تحكم أفعاله تجاه عبدالناصر. اطلع بادو خلال فترة عمله في مصر علي المراسلات العديدة التي دارت بين كيندي وعبدالناصر، وبعضها لم يفرج عنه بعد، وخلال ثلاث سنوات كانت هناك علي الأقل ست أو سبع رسائل متبادلة، ويمكن القول طبقا لبادو أن عبدالناصر رجل يمكن أن تتعامل معه بكل صراحة ولم يحدث أن شعر بالاستياء من جراء تصريحات أمريكية جريئة ما دامت في حدود الأدب، ويمكن مع عبدالناصر أن تتعامل معه جديا إذا وضعت أوراقك علي المائدة، كيندي فعل نفس الشيء حيث كان صريحا جدا في رسائله، مؤدبا ودقيقا، ولكن بالفعل صريح، هذا أدي إلي الاقلال من سوء الفهم بين الجانبين وأعطي عبدالناصر الانطباع بأن كيندي يحرص علي العلاقات بين البلدين، وفي نفس الوقت إذا كانت الرسالة مصاغة بأسلوب صحيح، فإنها تعطي الشعور بأنها بين انداد متساوين، وهو أمر اعتقد بادو أن عبدالناصر تجاوب معه، وكان كيندي علي علم بذلك. ومن أمثلة هذه الرسائل التي اطلع بادو علي مسودة لها أثناء زيارة لواشنطون قبل إرسالها إلي عبدالناصر، إن كيندي قال فيها: كما تعلم يجب علينا أن نتعرف أن الشخص المقابل لك لديه مشاكل أيضا، لديه رأي عام، تدرك أن هناك أشياء لا يستطيع أن يقوم بها، لم تدرج هذه العبارة في الرسالة الفعلية التي أرسلت إلي عبدالناصر، ولكن روحها كانت موجودة في الرسالة، ويتذكر بادو أنه في إحدي المرات حمل رسالة شفوية من كيندي إلي عبدالناصر، الرسالة الشفوية تبلغ شفويا، ولكنها تكتب وتقرأ من نص مكتوب يسلم بعد ذلك في مذكرة رسمية، ولذلك عشية سفره إلي القاهرة من واشنطون في زيارة له للتشاور، كان الرئيس كيندي قد طلب من مساعديه إعداد مشروع رسالة منه إلي الرئيس عبدالناصر، وبعد قراءتها قال لهم: هذه الرسالة لن تنفع، فأنتم في فقرتها الأولي لا تعرفون ما تكتبون، لم تكتبوا ما يتوجب علينا ابلاغه، يجب أن يكون ذلك واضحا ومباشرا، وأضاف كيندي لموظفيه الفقرة الثانية هي بمثابة نهاية معاهدة ما، هذه ليست معاهدة، هذه هي رسالة شخصية، ولذلك استدعي كيندي سكرتيرته وأملاها رسالة كان بادو في انتظار أن يتم كتابتها علي الآلة الكاتبة، الفقرة الأولي منها كانت توضيحا قويا مباشرا لما يريد أن يبلغه والثانية تحيات دافئة بين ندين متساويين، يقول بادو إن الرسالة كان لها تأثيرها علي عبدالناصر، لي ملاحظة في هذا الصدد، إذ تفادي بادو الإشارة إلي عدد من الرسائل المتبادلة بين كيندي وعبدالناصر فيما يتعلق بالبرنامج النووي العسكري الإسرائيلي الذي كانت ترد إلي القاهرة معلومات عنه بالرغم من السرية المطلقة المحيطة به، وقلق كيندي أيضا من هذا الموضوع. في الحلقة القادمة يتحدث إلينا بادو كيف كانت العلاقات بين القاهرة وواشنطون فيما يتعلق بموضوع المساعدات الغذائية وقناة السويس وكيف تعامل عبدالناصر معهما.