في حلقات سابقة استعرضنا تجارب واتصالات جون بادو سفير الولاياتالمتحدة في القاهرة في عهد الرئيس كيندي 1961 إلي 1964 مع القيادة المصرية من الرئيس عبدالناصر إلي علي صبري مدير مكتبه إلي الدكتور محمود فوزي وزير الخارجية والمشاكل التي اعترضت العلاقات بين البلدين. أشار بادو من قبل إلي التيارات المختلفة في الولاياتالمتحدة تجاه عبدالناصر ومصر منها من نظر إليه علي أنه شيوعي يخدم أغراض الشيوعية مما يستوجب مقاومته، وآخرون يرون علي العكس أنه خير من يستطيع وقف المد الشيوعي في المنطقة.. وعلق بادو علي مقولة أن بعض المسئولين في الخارجية الأمريكية كانوا يرون في عبدالناصر أنه يمثل المستقبل قائلاً: إنه بالفعل كان هناك من يري ذلك ولكنه عندما التحق بالخارجية قبل تعيينه سفيرا في القاهرة، فإن أصوات ونفوذ هؤلاء كان خافتا بل علي العكس كان يوجد العديدون الذين اعتبروا أن عبدالناصر لا يمثل المستقبل.. وفسر بادو قوله هذا بأنه كان هناك اتجاه آخر في الولاياتالمتحدة يقول ببساطة أنه لما كانت المصالح الأمريكية تكمن في بترول المنطقة فإن اهتمام واشنطن كان في الدول المحافظة المنتجة له.. لذلك فإن اهتمام واشنطن كان، بالدول المحافظة المنتجة له، ولذلك كانت سياسة الولاياتالمتحدة أكثر قربا مع دول مثل السعودية منتجة للنفظ وليبيا أثناء عهد الملكية، حيث كانت توجد قاعدة هويلس الأمريكية إلي جانب النفط والمغرب والأردن، إضافة إلي دول أخري.. ولكن هذه النظرية أدت إلي حد إلي أن تكون في مصلحة الروس. أعتقد أن ما ذكره بادو صحيح، فبالرغم من نواياه الطبيعية تجاه مصر وإعجابه بالرئيس عبدالناصر، إلا أن واضع السياسة في واشنطن كان يتأثر باللوبي النفطي الأمريكي متمثلا في شركات البترول الضخمة العاملة في المنطقة إلي جانب لوبي البنتاجون الذي يركز علي أهمية وجود قواعد عسكرية أمريكية في المنطقة السعودية- ليبيا- المغرب إضافة بالطبع إلي اللوبي الإسرائيلي الذي كان يحد من نمو العلاقات المصرية الأمريكية مهما كانت نوايا الرئيس كيندي نفسه طيبة في هذا المجال. لذلك يقول بادو إن الروس استغلوا هذه الأوضاع وصوروا أمريكا في الشرق الأوسط بأنها هي التي تدافع وتدعم الأنظمة القديمة في حين أنهم -أي الروس- هم مدعمو الثوريين، وهو قول صحيح في رأيي لكل متابع لتطورات الأمور في هذه المرحلة خاصة بزوغ حركة عدم الانحياز وتزعم مصر مع آخرين للحركة، والتي اعتبرها الروس أنها في النهاية تصب في مصلحتهم بالرغم أنها تنادي بالحياد بين الغرب والشرق.. ويقول بادو إنه يشارك هؤلاء الذين رأوا أن الأنظمة القديمة التقليدية مصيرها إلي زوال ولكن في نفس الوقت لم تكن قد تبلورت بعد ملامح نظام جديد في المنطقة وهو لم يكن يظن أن الاشتراكية العربية يمكن لها أن تمثل هذا النظام الجديد.. وكان يؤكد -حينئذ- أن علي واشنطن ألا تقصر دعمها للدول ذات الأنظمة التقليدية بل عليها أن تتوسع في علاقاتها مع الدول الجديدة. وفسر موقف هؤلاء الذين رأوا في عبدالناصر أنه يمثل المستقبل، بالقول إنه حدث بعد انتهاء حرب 1956 مباشرة خرج منها عبدالناصر منتصرا إلي جانب تحقيق الوحدة المصرية السورية، ولكن حدثت اخفاقات فيما بعد حيث انفصلت سوريا من الجمهورية العربية المتحدة قبل شهور قليلة من توليه منصبه في القاهرة. لا يوافق بادو الرأي القائل بأن سياسة الولاياتالمتحدة خلال هذه السنوات من عهد إيزنهاور إلي كيندي ثم إلي جونسون الذي خلفه بعد اغتياله كانت تهدف أساسا إلي وقف نفوذ عبدالناصر أكثر من كونها سياسة تهدف إلي تحجيم الدور السوفييتي.. ويضيف أن كيندي لم يسمح بأن تتطور السياسة الأمريكية إلي هذا الوضع، ولكن في عهد جونسون فإن إدارته كانت تسير في هذا الاتجاه، إلا أنه غير واثق لو كان كيندي لم يقتل وظل حيا لما حدث هذا الاتجاه، لأن كيندي من مميزاته أنه كان جريئا وله رؤية واضحة ولكنه عصبي في نفس الوقت.. وقد حدثت بعض الحوادث في القاهرة بعد عودة بادو إلي واشنطن عقب انتهاء فترة عمله منها حرق مكتبة السفارة الأمريكية في القاهرة عام 1964 وإسقاط طائرة شركة ماكون للبترول وخطاب عبدالناصر الشهير اذهبوا واشربوا من البحر فلا شك أن كيندي كان سيتصرف كما فعل جونسون.. انطباع جونسون ووزير الخارجية راسك في ذلك الوقت كان كما يلي: لقد فعلنا كل ما في وسعنا نحو مصر ولكن عبدالناصر لا يستجيب، إذا كان المصريون يريدون علاقات معنا عليهم أن يبدأوا من جانبهم. وينظر بادو إلي العالم العربي علي أنه عالم متقلب تعتريه تقلبات مفاجئة ولذلك من الصعب الالتزام بخطة محددة تجاهه علي المدي الطويل.. كان يعتقد دائما كما صرح في مناسبات عديدة أن السياسة الأمريكية في المنطقة يتوجب أن تبحث عن المصالح المشتركة، خاصة أن قدرة واشنطن علي التصدي لمشاكل المنطقة قد قلت وفي نفس الوقت (حديثه عام 1969) فإن الروس كانوا يقابلون نفس المشكلة.. ولذلك علي الولاياتالمتحدة أن تقلل من التزاماتها في المنطقة لكي تتمشي مع مصالحها الفعلية، خاصة أنه كان هناك اتجاه في واشنطن للتوسع دون داع في المنطقة. عما إذا كانت إدارة كيندي علي مستوي توقعاته كسفير في القاهرة، قال أولاً إن تعيينه بالقاهرة جاء مفاجئا له ولم يكن مهيأ لذلك، ولكنه بصفة عامة فإنه يعتقد أن كيندي كان رجلا صادقا في تصريحاته وحاول أن يقوم ببداية جديدة مع مصر. في النهاية أبدي بادو أسفه لعدم تمكنه من إقناع عبدالناصر بزيارة واشنطن ومقابلة كيندي، وهو كان يرغب أن تتم هذه الزيارة لسببين الأول هو أنه كانت هناك عدة أمور يتوجب علي عبدالناصر أن يفهمها بوضوح حول السياسة الأمريكية الحقيقية بالنسبة لفلسطين علي عكس ما كان يعتقده عبدالناصر.. فالسياسة الأمريكية لم تكن موالية لإسرائيل إلي هذا الحد الذي يعتقده العرب وليست موالية للعرب كما اعتقد الإسرائيليون.. ويري بادو أنه فعل كسفير كل ما يستطيع ولكن في نهاية المطاف فإن هناك أشياء لا يستطيع أن يفعلها سوي رئيس الولاياتالمتحدة.. لقد كان يظن أن عبدالناصر في إمكانيته أن يزور البيت الأبيض عصر أحد الأيام ويجلس في جلسة مصارحة مع كيندي ويكون الأخير صريحا معه كما كان في مراسلاته معه. ومن ناحية أخري، يري بادو أن عبدالناصر لم يكن يعرف كيف يمكن أن يجعل أمريكا تتوافق tick وهي كلمة تعني أن يمتلك المفتاح الذي يمكنه من كسب قلوب وعقول الأمريكيين.. لم يكن يفهم الرأسمالية الأمريكية إذا كان يقارنها برأسمالية يعرفها تقوم علي أساس الخلط بين القطاعين العام والخاص، لذلك فإن زيارته للولايات المتحدة كانت ستتيح له أن يشاهد كيف تعمل أمريكا واقتصادها.. كان بادو يعتقد أنه علي وشك النجاح في إتمام هذه الزيارة لولا حرب اليمن، لأن الزيارة لو كانت قد تمت لم تكن لتؤثر فقط علي علاقات أمريكا بعبدالناصر ولكن علي التطورات الداخلية في مصر نفسها. في الحلقات الماضية عرفنا رأي السفير بادو في مصر وقياداتها.. ومهما كان رأينا متفقا معه أو ضده، إلا أنه حاول قدر جهده إصلاح هذه العلاقات بين البلدين، خاصة أنه لم يكن غريبا عن مصر إذ خدم لسنوات عديدة كرئيس للجامعة الأمريكية مما مكنه من إقامة علاقات مع العديد من الشخصيات المصرية.. لقد تحدث بإخلاص وأعتقد كصديق محب لمصر وليس كدبلوماسي متعجرف يمثل دولة عظمي في دولة نامية.. في مناسبة قادمة سنتعرض إلي العلاقات الأمريكية الإسرائيلية من واقع خبرة سفير الولاياتالمتحدة هناك والورث باربور الذي بدأ عمله في تل أبيب في نفس فترة السفير بادو في القاهرة ولكنه ظل سفيرا لواشنطن في إسرائيل حتي عام 1973، وكان في الواقع سفيرًا لإسرائيل لدي واشنطن.