تعرضنا في حلقات سابقة إلي ما رواه جون بادو سفير الولاياتالمتحدة في القاهرة أثناء عهد الرئيس كيندي حول تعامله مع الرئيس عبدالناصر والطريقة التي كانت فيها العلاقة بين الرئيس كيندي وعبدالناصر. يقول بادو إنه نادرا ما خاطب الرئيس عبدالناصر كتابة.. وكان هناك شخص أو اثنان من المسئولين المصريين اللذان عملا كوسيط بينه وبين عبدالناصر، اعتاد أن يرسل إليهما بين الحين والآخر مقالات من الصحف الأمريكية ليس بالضرورة فقط تلك التي تمدح مصر.. كما اعتاد أن يرسل إليهما الكثير من الكتب التي صدرت في الولاياتالمتحدة واعتاد أن يحضرها معه عندما يزور واشنطن بين الحين والآخر.. وخلال مدة عمله فإنه كتب إلي الرئيس مباشرة في مناسبات قليلة فقط. هو لا يعتقد في خلط الأمور بعد انتهاء مدة عملك في المنصب الدبلوماسي ولكن عليك أن تبقي علي اتصال بين الحين والآخر وتتابع ما يحدث.. وحرص بادو كل مرة قبل أن يغادر القاهرة للتشاور مع حكومته وهو ما لا يقل عن ثلاث مرات في السنة، علي مقابلة الرئيس عبدالناصر. يتذكر بادو كيف حضر إدوارد ماسون من واشنطن لتقييم الأداء الاقتصادي المصري وإمكانية استمرار المساعدات الأمريكية لمصر من عدمه وكيف قابل الرئيس عبدالناصر مرتين.. وقال إن ماسون شعر أن أداء مصر اقتصاديا لا بأس به حيث تمكنت من تحقيق زيادة في الدخل القومي بلغ 9.5٪ سنويا و8.2٪ زيادة في متوسط دخل الفرد وهو معدل جيد جدا بالنسبة لدولة كمصر تعاني من مشكلة زيادة السكان ومشاكل عديدة أخري.. ولكنه كان يري أن خطة الحكومة المصرية بمضاعفة الدخل القومي خلال ثماني سنوات أمر غير واقعي أو عملي.. وأبلغه ماسون أنه ذكر لعبدالناصر ألا يشعر بأن ما تقوم به الحكومة المصرية غير كاف وحاول أن يوضح له أن الطريقة الوحيدة لمضاعفة الدخل القومي هي في خفض الانفاق الحكومي بصورة جذرية.. رد عليه عبدالناصر بعدم استطاعة فعل ذلك، حيث إن الشعب المصري قد انتظر طويلا ويريد أن يري تحسنا في مستوي معيشته. يري بادو أنه يمكن أن تكون صريحا جدا مع عبدالناصر وكان ماسون صريحا في حديثه معه.. وقد اصطحبه لمقابلة الرئيس عبدالناصر خلال شهر رمضان في القناطر الخيرية، حيث دامت المقابلة أكثر من ثلاث ساعات.. وخلالها ذكر عبدالناصر: المشكلة مع الاقتصاديين هي أنهم دائما يخبرونني بما لا أستطيع أن أفعله، لدي شعبي ويتوجب علي فعل شيء من أجله، لقد انتظر لمدة طويلة.. إضافة إلي ذلك أنا لا أفهم كثيرا في الاقتصاد وعندما يحضر الدكتور القيسوني وزير اقتصاد مصر في ذلك الوقت لمقابلتي لا أفهم كثيرا مما يقوله.. رد ماسون علي عبدالناصر قائلاً: سيادة الرئيس الاقتصاد ليس شيئًا صعبًا، التنمية بسيطة جدا، هناك قاعدتان فقط.. ليس أمامك أ، ب، ج، د، ه، عليك أن تقوم بالاختيار وعندما تفعل ذلك فإنك تختار تلك التي تؤدي إلي أكثر الفوائد اقتصاديا. يري بادو أن هذه المقابلة كانت مفيدة جدا وأدت إلي تقوية تأثير بعض المستشارين الاقتصاديين مثل الدكتور عبدالمنعم القيسوني الذي كان أكثر واقعية من عبدالناصر.. ولذلك عندما تحضر خبيرا اقتصاديا أجنبيا مرموقا ويري نفس الشيء، فإن ذلك يؤدي إلي تقوية مركز هؤلاء. كانت واشنطن قد اتفقت مع مصر في برنامج 480PL لمدة ثلاث سنوات الذي يحكم المساعدات الغذائية الأمريكية مقابل جنيهات مصرية توضع في حساب خاص للانفاق منه علي المشروعات الأمريكية في مصر، ويتوجب إعادة النظر في الاتفاقية في نهاية كل عام.. ولم تكن مصر قد أوفت بكل ما تعهدت به في البرنامج مثل موضوع تصدير الأرز.. بالرغم من أنني -كما يقول بادو- لم أكن أعتقد بصلاحية وضع شروط سياسية علي المساعدات، وهي غير فعالة مع كل حال، إلا أن من رأيه مع ذلك أنه في حالة عدم التزام مصر فهناك ضرورة وضع شروط اقتصادية ويتوجب عليها دفع الثمن لذلك، وهو أمر يجب فصله عن السياسة. ويخلص بادو إلي أن الرئيس كيندي كان يرغب حقا في تطوير العلاقات مع مصر ليس عن طريق الاستسلام للشروط المصرية، حيث كان يقول: لنقم ببداية جديدة مع مصر ونقبل أي شيء معقول من جانبها ونمهد الطريق لإقامة علاقات طيبة بيننا.. وكان مؤيدا لهذا الاتجاه بقوة.. تحدث معه بادو عدة مرات حول الموضوع، حيث أكد أنه مستمر في هذا الأسلوب.. ولذلك كان من رأي بادو أن ربط المساعدات الأمريكية الغذائية لمصر في اتفاقية مدتها عام واحد فقط كما يريد البعض في واشنطن بدلا من ثلاث سنوات قد يكون لها تأثيرها السياسي، ولكن تأثيرها الاقتصادي سيكون مشكوكا فيه.. إذ أنه كان يعتقد بضرورة تمكن الطرفين من التخطيط لمدة معقولة من الزمن، لأنك إذا ما توقعت أن تحصل علي 30٪ من احتياجاتك الغذائية هذا العام تنخفض إلي الصفر في العام الثاني فإنك ستكون في موقف سيئ جدا. في مقابلة السفير بادو عام 1961 مع الرئيس كيندي خلال إحدي زياراته إلي واشنطن بحضور روبرت كومير من مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض المسئول عن الشرق الأوسط، كانت سوريا قد انفصلت عن الجمهورية العربية المتحدة وبدأت أزمة تهديدات العراق في عهد عبدالكريم قاسم بغزو الكويت. ويري السفير بادو أنه إذا كانت هناك أجهزة أخري كانت تقوم بعمليات في مصر مثل المخابرات الأمريكية أو وكالات ومؤسسات أخري وهو لا يعلم بها، فهذا خطأ السفير نفسه إذ يتوجب علي واشنطن أن تعلم سفيرها بكل ما تقوم به من علاقات واتصالات مع مصر.. وقد حرص بادو قبل سفره إلي القاهرة كسفير جديد علي خفض حجم بعثة المخابرات الأمريكية الملحقة بالسفارة الأمريكية وتحدث مع آلان دالاس، رئيس المخابرات الأمريكية، في الموضوع إذ كان من رأيه أن حجمها أكبر من اللازم.. وكانت له علاقات طبيعية مع رجال المخابرات الأمريكية في القاهرة قائلاً: إنه لم يكن يريد معرفة أدق تفاصيل عملهم لأنه في بعض الأوقات فإن عدم العلم بذلك أمر مفيد! ولكنه كان يريد ألا تحجب عنه المعلومات الرئيسية. ويسترجع بادو أن خلفه لوسيسوس باتل كسفير أمريكا بالقاهرة كانت له مشاكله مع رجال المخابرات الأمريكية، وهو نفسه اختلف معهم في بعض الأحيان مثل رغبتهم في إرسال عدد كبير من رجالهم إلي القاهرة أثناء مؤتمر عدم الانحياز الأول، ولكنه يؤكد أن المخابرات الأمريكية لم تكن تقوم بعمليات داخل مصر في هذه الفترة وإنما كان عملها يقتصر علي جمع المعلومات. وفي الحلقة المقبلة يحدثنا بادو عن بداية علاقة الشركات البترولية الأمريكية في مصر باعتبارها أنجح الاستثمارات الأمريكية.