في الحلقات السابقة تعرضنا إلي رؤية جون بادو سفير الولاياتالمتحدةبالقاهرة أثناء عهد كينيدي للعلاقات الاقتصادية بين مصر وأمريكا وخاصة برنامج المعونة الغذائية الأمريكية لمصر التي كانت تعتمد عليها في سد 30٪ من احتياجاتها من الحبوب. وكانت هناك أصوات في واشنطون تطالب بأن يكون البرنامج لمدة سنة واحدة وليس بناء علي اتفاقية لثلاث سنوات كأسلوب للضغط علي مصر وهو أمر كان بادو يوصي بعدم الموافقة عليه. يتحدث بادو عن بعض أوجه الخلافات بين القاهرة وواشنطون فمثلاً لم تكن هناك خلافات حول قناة السويس، ولكن بالنسبة لليمن فإن واشنطون لم تكن ترغب أن تؤثر الحرب هناك وتواجد القوات المصرية علي إحداث قلاقل في السعودية، وفي الحالات العديدة التي كان يتم الحديث فيها مباشرة مع عبدالناصر حول الموضوع كانت هذه النقطة تثار وتؤكد بكل قوة حول أهمية المصالح الأمريكية في منطقة الخليج وخاصة فيما يتعلق بالبترول كعنصر أساسي. عبدالناصر كان يقول أعرف أن لكم مصالح بترولية، أنا لست طامعا في بترول السعودية ولكن الكثيرين في الولاياتالمتحدة لم يكونوا يصدقونه. أما بالنسبة لعمل شركات البترول الأمريكية في مصر في هذه الفترة فلم تكن كبيرة إذ كانت تقتصر علي شركة فيليبس للبترول وشركة بان أمريكان للبترول وكلتاهما بدأتا خلال عمله في القاهرة واستثمرتا مبالغ لا بأس بها في عمليات الاستكشاف والتنقيب. وقد فعلت ذلك بعد مناقشات طويلة مع المسئولين بالسفارة الأمريكية. أما شركة موبيل أوبل فقد كانت شركة توزيع في المقام الأول من محطات بترول إلي خدمات بترولية. ولكن بصفة عامة فإن الولاياتالمتحدة لم تكن لها مصالح نفطية استراتيجية كبيرة في مصر. وبالنسبة للقناة فلم تكن تمثل مشكلة بين البلدين فقد كانت مفتوحة للملاحة الدولية عندما وصل إلي القاهرة وعندما غادرها، وينفي بادو أن يكون الاتحاد السوفيتي في تلك الفترة قد بدأ اتصالات مع مصر في مجال التنقيب عن النفط ووصف أكبر أزمة صادفته كانت مشكلة اليمن التي كانت واشنطون بما فيها البيت الأبيض تتصل بشأنها بالسفارة وبالقاهرة صباحًا وظهرًا ومساءً كل يوم. تعرض بادو إلي تأثير الجماعات الموالية لإسرائيل علي سياسة واشنطون الخارجية، فيقول أنه أثناء فترة حكم الرئيس كينيدي كانت تمثل مجموعة من العوامل قائلاً أنه من الطبيعي جدًا أن يكون للمواطنين الأمريكيين مصالح مشروعة في إسرائيل وهو أمر كان يخبر عبدالناصر به دائمًا. ويتذكر أنه كان يقول له: سيادة الرئيس، أن اخوانك العرب يشغلون الكثير من الناس في الولاياتالمتحدة فهم يقولون أنك - أي عبد الناصر - ليس لك أي حق في التدخل في الشئون العربية، ولكنكم المصريون ترون في أنفسكم قوميين عربًا، ونحن لدينا الأمريكيون الذين يؤيدون إسرائيل وهو أمر طبيعي. ويضيف بادو أن أنصار إسرائيل في الولاياتالمتحدة يعملون بطرق مختلفة منها عن طريق أعضاء الكونجرس الذين يأتون من ولايات يفترض أن بها أصواتًا يهودية، وأقول يفترض لأنني أعتقد أنه لا يوجد صوت يهودي وغالبية أصدقائي اليهود يوافقون علي هذا الرأي. ولكن هذه النقطة هي مجرد خرافة تم خلقها والإيمان بها. ولذلك فإنه عندما يرشح روبرت كيتينج (أكبر أنصار إسرائيل فيما بعد) في نيويورك ضد روبرت كينيدي شقيق الرئيس كينيدي ويدلي بخطبه قال فيها أنه سيفعل كذا وكذا من أجل إسرائيل، فإنه لم يفعل ذلك بناء علي ضغط مورس عليه، ولكن لأنه رأي أن من بين الناخبين من سيتجاوب إيجابًا مع ذلك. وهذا صحيح أيضًا في شيكاغو فبالنسبة لإدوارد كينيدي الشقيق الأصغر لكينيدي عندما رشح نفسه لعضوية مجلس الشيوخ فإنه أدلي بخطاب موال كثيرًا للصهيونية في مدينة بوسطون. ولا يعتقد بادو أن جهة ما أجبرت إدوارد كينيدي علي ذلك ولكنه فعل ذلك من أجل الحصول علي أصوات الناخبين. العامل الثاني في رأي بادو هو أن المنظمات اليهودية الكثيرة في الولاياتالمتحدة من الهاداسا إلي منظمة النساء الصهيونيات إلي بني بريث إلي المنظمة الصهيونية الأمريكية كلها تعمل تحت إشراف منظمة رؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية، وتمثل جهازا وصوتا منظما لصالح المصالح (اليهودية) التي يؤمنون بها. إضافة إلي ذلك يري بادو أن هناك أيضًا الأفراد اليهود ويضرب مثلاً علي ذلك بموضوع تزويد واشنطون بصواريخ هوك إلي إسرائيل خلال عهد كينيدي. كان للمسألة تبريراتها العسكرية حيث رأي البنتاجون أن إسرائيل معرضة للخطر بسبب عدم وجود نظم دفاعية وأن تزويدها بصواريخ هوك لن يزيد من قدراتها الهجومية ولهذا يمكن تبرير الصفقة عسكريا. ولكن ذلك لم يكن هو السبب الرئيسي في اتمام الصفقة، بل أنها تمت لأن الكونجرس كان يواجه أول انتخابات لأعضائه بعد تولي كينيدي الرئاسة، وفي هذه الانتخابات فإن الأفراد الذين يمولون الحملات الانتخابية أوقفوا تمويلهم في أغسطس من عام 1961 قائلين أنهم لن يفعلوا ذلك قبل أن تقوموا بكذا وكذا لإسرائيل. وفي النهاية قال الرئيس كينيدي: لدي التبريرت العسكرية ولذلك سأبيع صواريخ هوك لإسرائيل وبذلك أمكنه الحصول علي التبرعات المالية للحملة الانتخابية، وهذا يمثل ضغوطًا قام بها أفراد. عندما حضر هيوبرت همفري أحد قادة الحزب الديمقراطي إلي القاهرة أخذه السفير بادو لمقابلة الرئيس عبدالناصر استغرقت أكثر من خمس ساعات لم يتحدث فيها عبدالناصر بأكثر من ثلاث كلمات. وعندما انتهت المقابلة تحدث همفري مع بادو وقال له: هذا عمل شجاع قمت به، لقد حصلت علي أموال كثيرة من الأصدقاء اليهود وهم بالطبع لا يشعرون بالسعادة عندما يرونني أقابل عبدالناصر. وعلق بادو علي القول بأن الخارجية الأمريكية بها دبلوماسيون موالون للعرب أو هي تحت تأثير ممن يسمون بالمستعربين، قائلاً أن هناك بالفعل العديد من الدبلوماسيين الأمريكيين ممن يهتمون بالعالم العربي ويصف المستعرب بأنه الشخص الذي يتخصص في اللغة العربية، إلا أنه لا يوافق علي أنهم يؤثرون علي سياسات الخارجية الأمريكية، ولكن في نفس الوقت هناك أشخاص التصقوا بالقضايا العربية ويعتقدون أن العرب نالهم الكثير من الغبن ولذلك أسسوا جمعية الأصدقاء الأمريكيون للشرق الأوسط ومن ضمنهم وليام هوكنج ودين فرجينيا وفي النهاية يقول أن الولاياتالمتحدة كانت تضم شخصيات مثل جيمس فورستال كوزير دفاع وغيره في عهد ترومان الذين اتخذوا موقفًا ضد ما يرونه من سياسات موالية لإسرائيل لاعتقادهم أنها تتعارض مع المصالح الأمريكية. في الحلقة القادمة نصل إلي التقييم النهائي لفترة بادو وفي القاهرة ونظرته إلي سجل عمله كسفير بها.