فى زمنٍ تتسارع فيه التحديات البيئية وتشتد فيه أزمة الموارد الطبيعية، تقف مصر مجددًا فى مقدمة الصفوف، حاملةً رسالة الأمل والعمل من أجل المياه، باعتبارها قضية وجود وأمن قومى وإنسانى. فعلى أرض القاهرة، حيث بدأ التاريخ مع النيل، يلتقى صناع القرار والعلماء والخبراء من أكثر من خمسين دولة فى الدورة الثامنة لأسبوع القاهرة للمياه 2025، المنعقدة من 12-16 تحت شعار: «حلول مبتكرة من أجل القدرة على التكيف مع التغيرات المناخية واستدامة الموارد المائية». هذه الدورة ليست مجرد مؤتمر علمى أو ملتقى أكاديمى، بل منصة عالمية للحوار والتنفيذ، تؤكد أن مصر انتقلت من مرحلة الدفاع عن حقوقها المائية إلى مرحلة الريادة الدولية فى الإدارة الرشيدة للمياه، عبر رؤية متكاملة تمزج بين العلم والسياسة والابتكار، وتترجمها إلى مشروعات قومية كبرى تشهدها أرض الواقع.. تُعد المياه فى مصر قضية حياة لا تحتمل المساومة، إذ تعتمد الدولة بنسبة تفوق %97 على نهر النيل لتوفير احتياجاتها المائية. ويبلغ نصيب مصر من مياه النيل 55.5 مليار متر مكعب سنويًا وفق اتفاقية 1959، بينما تتجاوز احتياجاتها الفعلية 114 مليار متر مكعب سنويًا، أى بعجز مائى يقارب 40 مليار متر مكعب. ولتقليص هذه الفجوة، تنفذ الدولة استراتيجية وطنية شاملة للموارد المائية حتى عام 2050، ترتكز على محاور: الترشيد، والتنمية، والحماية، وتهيئة البيئة الداعمة. ويبلغ نصيب الفرد من المياه حاليًا نحو 500 متر مكعب سنويًا فقط، أى أقل من نصف خط الفقر المائى العالمى البالغ 1000 متر مكعب، ومع تزايد السكان الذى تجاوز 108 ملايين نسمة، يُتوقع أن ينخفض هذا الرقم إلى أقل من 400 متر مكعب بحلول 2030، ما يجعل الإدارة الذكية للمياه ضرورة وجودية وليست خيارًا. لم تكتفِ مصر برفع الشعارات، بل تحركت على الأرض بمشروعات ضخمة غيرت خريطة إدارة المياه فى البلاد: 1-تبطين الترع لمسافة تجاوزت 20 ألف كيلومتر حتى منتصف 2025، ما أسهم فى تحسين كفاءة نقل المياه وتقليل الفاقد. 2- التحول إلى نظم الرى الحديث فى أكثر من 2.5 مليون فدان، لتقليل الاستهلاك وتحسين الإنتاجية الزراعية. 3-محطات تحلية المياه بطاقة تفوق 1.5 مليون متر مكعب يوميًا، مع خطة للوصول إلى 6 ملايين متر مكعب يوميًا بحلول 2030. 4- محطة معالجة بحر البقر – الأكبر من نوعها عالميًا – بطاقة 5.6 مليون متر مكعب يوميًا، لإعادة استخدام المياه فى استصلاح 400 ألف فدان بشمال سيناء. 5-محطة الحمام بالساحل الشمالية بطاقة 7.5 مليون متر مكعب يوميا، لخدمة مشروع الدلتا الجديدة العملاق الذى يعزز الأمن الغذائى. هذه الأرقام ليست مجرد مؤشرات، بل دليل على التحول النوعى فى إدارة كل قطرة ماء وفق نهج علمى وتكنولوجى متقدم. أسبوع القاهرة للمياه الذى اجتمع فيه أكثر من 95 منظمة وهيئة إقليمية هذا العام أصبح أداة استراتيجية للدبلوماسية المائية المصرية، حيث تُطرح منه المبادرات وتُبنى الجسور بين الدول. فمن القاهرة، تؤكد مصر أن الأنهار لم تُخلق لتكون حدودًا بل جسورًا للتكامل والتعاون، وترفض أى إجراءات أحادية على نهر النيل تمس الحقوق التاريخية والمشروعة لشعوب الحوض. يشارك فى فعاليات الأسبوع وزراء ومسئولو المياه والزراعة والبيئة من أكثر من 50 دولة، إلى جانب منظمات دولية ك الفاو واليونسكو والبنك الدولى وبرنامج الأممالمتحدة الإنمائى، مما يجعل الحدث منصة مؤثرة فى صياغة السياسات المائية العالمية. ترتبط المياه ارتباطًا وثيقًا بالغذاء، حيث تستهلك الزراعة نحو %80 من موارد مصر المائية. ولهذا، تبنّت الدولة سياسات متكاملة لتحسين كفاءة استخدام المياه، عبر التوسع فى نظم الرى بالتنقيط والرذاذ، والتسوية بالليزر، وإعادة استخدام المياه المعالجة. وقد ساهمت هذه الإجراءات فى رفع إنتاجية الفدان وخفض الاستهلاك المائى بنسبة تتراوح بين 10 و%15، خاصة فى المحاصيل كثيفة الاستخدام مثل الأرز والقمح والذرة... وتُعد مشروعات مستقبل مصر، والدلتا الجديدة، وتوشكى الخير نماذج عملية لتكامل المياه والزراعة والطاقة، ضمن خطة تحقيق الاكتفاء الذاتى وتعزيز الأمن الغذائى. ما يميز أسبوع القاهرة للمياه عن غيره من المؤتمرات أنه لا يكتفى بإصدار البيانات الختامية، بل يُترجم توصياته إلى سياسات تنفيذية ضمن الاستراتيجية القومية للموارد المائية 2050. وتستند هذه الاستراتيجية إلى أربعة محاور رئيسية: الترشيد عبر تحديث شبكات الرى، والتنمية بتوفير موارد جديدة من التحلية وإعادة الاستخدام، والحماية من التلوث والسيول، وتهيئة البيئة عبر التشريعات والتمويل وبناء القدرات. وتعمل الدولة على دمج مخرجات كل دورة من الأسبوع فى خططها التنفيذية، بالتعاون بين الوزارات والجامعات والقطاع الخاص، لضمان استدامة الجهود وتراكم الخبرات. لم يكن اختيار القاهرة منصة للحوار المائى العالمى مصادفة؛ فهى هبة النيل ومصدر أول تجربة إنسانية فى إدارة المياه والزراعة. واليوم، تُثبت مصر أنها ما زالت قادرة على قيادة الفكر المائى العالمى، بفضل رؤية متكاملة تجمع بين العدالة المائية، والابتكار العلمى، والالتزام الدولى. إن أسبوع القاهرة للمياه 2025 ليس مجرد حدث سنوى، بل رسالة عالمية من مصر إلى الإنسانية: أن المياه حق للجميع، وأن التعاون هو الطريق الوحيد لتأمين مستقبل مشترك آمن ومستدام. أبرز رسائل أسبوع القاهرة للمياه 2025 1- المياه حق إنسانى ومسئولية مشتركة تتطلب تضامنًا عالميًا وتعاونًا إقليميًا عادلًا. 2-الابتكار العلمى والتكنولوجيا الحديثة هما الطريق الأمثل لمواجهة الندرة وتحقيق الاستدامة. 3-الدبلوماسية المائية المصرية أصبحت نموذجًا يُحتذى فى بناء جسور الحوار والتفاهم. 4-الشباب والجامعات يمثلون الطاقة المتجددة لعصر جديد من الإدارة الذكية للمياه. 5- مصر تترجم الأقوال إلى أفعال وتحول توصيات المؤتمرات إلى مشروعات قومية تسهم فى تحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030. ختامًا.. تؤكد القاهرة للعالم أن الدفاع عن الحق فى الماء هو دفاع عن الحق فى الحياة، وأن مصر – التى علّمت البشرية الزراعة منذ آلاف السنين – لا تزال اليوم تُعلمها كيف تُدار المياه بعقل وعدل وإرادة.