رفقى الرزاز فنان تشكيلى مميز ذو خصوصية متفردة، لا يبحث فى الجمال التقليدى الذى يخاطب البصر، عالمه الفنى شديد الغموض والإثارة قادر على جذب المتلقى ذهنيا وعقلياً ووجدانيا يحاور البصيرة، يعبر برموزه وشفراته إلى عالم مليء بالأسرار والصراعات ليطرح تساؤلات فلسفية بأدواته التشكيلية وتقنياته المعاصرة يدعو للتحاور مع الحضارات الإنسانية وثقافات الآخر مع الاحتفاظ بهويته المصرية.. يضم معرضه الذى أقيم فى قاعة «الباب» بالأوبرا مجموعة من أعماله التصويرية المتنوعة التقنيات، الرموز فى لوحاته أشبه بنصوص مصاحبة لمفردات تشكيلية، لاتخلو أعماله من رموز شعبية ومفردات هندسية مصرية قديمة، يصوغ رؤيته الفنية بمفاهيم ثقافية ومتسق مع موروثه البيئى والثقافى. تحاورنا معه حول العديد من القضايا الفنية والإشكاليات الثقافية للفنون المعاصرة. ■ يلاحظ فى أعمالك وجود المرأة وبالأخص «حاملة الجرة».. لماذا؟ - علمنى الفنان حامد ندا مخاطبة عين المتلقى حتى أستدعى ما بداخلهم من مشاعرهم، ومحمود مختار له منزلة خاصة فى أعمالى، فاستلهام لوحات من عمله «حاملة الجرة»، الجرة رمز النيل والخير والنماء وهى قيمة رمزية، هذا العمل اقدره واعتبره حلقة وصل بينى وبين أستاذنا محمود مختار، وأيضا بعض اللوحات بها حصاد القمح، ورحلة القمح من قرية إلى أخرى، ذلك المشهد المصرى العميق المغزى، لذلك وضعت طبقات من العجائن المكونة من (الرمل – والنشارة) الملمسية الخشنة والناعمة كمكمل للمضمون، فأثناء زيارتى للهرم ومشاهدته من الداخل وجدت حكايات مكتوبة بعالم الحجارة، وحتى شكل الحجارة أقرب إلى عناصر إنسانية متمسكة بوجودها وبحضارتها، مجموعة أخرى من اللوحات عن واحة سيوه . تعلمت أيضا من فنانين كثيرين أثروا فى تشكيل وعيى الفنى مثل ديلاكروا – هنرى ماتيس – جورج براك – الروسى كاندنسكى- سيزان - فان جوخ، ومع ذلك يجب أن يعى الجميع أن مصر تقف على أرض صلبة ومرجعيات وحضارات ورواد عطاؤهم لا يرحل برحيلهم، لا يمكن إنكار جهد رواد الفن الحديث وهم من أرسوا قواعد اللغة التشكيلية المعاصرة فى العالم. ■ الجزء الثانى من لوحاتك منفذ بأسلوب الكولاج، حدثنا عنها؟ - أما لوحات الكولاج فهى تجربة فنية أخرى لكنها لا تخرج عن نفس المضمون مخاطبة الحضارات الإنسانية الاختلاف فقط فى الأداء والتقنية استخدمت فيها العفوية فى القطع ونفاذ الضوء بالمساحات فى أجزاء أعطى للعفوية قيمة جمالية، وعلمنى قيمة قصاصات الورق أستاذى الفنان منير كنعان وهو منهج صناعة العفوية فى القطع وهذه التجربة قمت بتنفيذها بالألوان الزيتية والأعمال بصفة عامة اطرح من خلالها تساؤل عن لقاء التراكم المعرفى الثقافى للحضارات الإنسانية فى العمل الفنى. ■ ماذا تقصد بلقاء التراكم المعرفى؟ - من وجهة نظرى أن الإنسان خلق ليسأل ويبحث فى الكون وأسراره ويخوض صراعات مع بديهيات الحياة لينال من تلك الثقافات عبر التاريخ بتياراتها الفكرية ومناهجها المتعددة وفلسفاتها المتناثرة ولكن يبقى سؤال أزلى: هل تضافر ناتج العقل البشرى واستوعبها الإنسان؟.. أزعم انه لم يحدث نسيبا حتى الآن. ■ دائما ما نجد فى أعمالك العديد من الرموز والمفردات التى تنتمى للعديد من الحضارات الإنسانية، حدثنا عن منطلقاتك الفكرية؟ - تفرغت للفن منذ 35 عاماً وعرضت فى دول كثيرة واقتربت من ثقافات دول أخرى، ليس بالضرورة أن أقوم بإعداد مسبق للعمل الفنى بمعنى رسومات أو اسكتشات، أعمل بحسب الفكرة الملحة على تفكيرى ووجدانى، العمل الفنى تجارب وتراكم ثقافى وتقنى مرتبط ببعضه بالإضافة إلى حضارة المصرى القديم (الفرعونية – القبطية – الإسلامية)، مرجعيتى الأصلية ورصيدى الثقافى الذى لا ينفذ أبدا، وحين نتأمل الحضارات سنجدها متواصلة والعالم كله يستقى اللغة التشكيلية من الحضارة المصرية القديمة وأيضا الفن الحديث يستلهم من الحضارة، كثير من الدول التى قمت بزيارتها وعرضت فيها وجدت فيها رموزًا فنية تقترب من مفرداتنا مع اختلاف مضمونها بحسب تناولها فى العمل الفنى.. لو رجعنا إلى التاريخ سنجد أن بيكاسو قد كتب دراسة عن المصرى القديم، عن «قدم» رمسيس الثالث وقوة النحت ولم يستطيع بيكاسو الاقتراب من الحضارة أو التعاطى معها تشكيلياً، واستغرب حين اسمع من يقول أن عمر الحركة الفنية المصرية 100 عام وأنها بدأت مع المثال محمود مختار، فأين فترة الاحتلال الانجليزى والاحتلال العثمانى وغيرها من فترات التاريخ المصرى، العديد من رسومات جداريات الأقصر تشبه استكتشات دافنشى، الفكر الإبداعى متواجد فى حضاراتنا. الدكتور «عفيفى» كتب دراسة عن «تأثر فنانى الغرب بمصر»، الحضارة المصرية والحضارة الإسلامية أثرت على الغرب ونماذج فى تاريخ الفن يشهد على ذلك، نتعلم من حضارات الآخر على إلا تطمس حضاراتنا وهويتنا الأصلية احتراما للتاريخ وتقديرا لكل منجزا بشرياً، لابد أن يبتعد الفن عن السياسية والاقتصاد، لأنهما سبب وجود الطغيان والاستعمار فى العالم وسبب طمس الإنسانية التى يرتقى بها الفن، الغرب أرسل إلينا مؤامرات على الهوية وعلى الحضارة، ولا يجب دائما أن ننظر إلى الغرب أنهم أساس الإبداع. ■ ماذا تقصد بمؤامرة الغرب على الحضارة والهوية؟ - توقفت التعبيرية المصرية واتجه الفنانون إلى الغرب، رغم أننا الأسبق، التعبيرية المصرية وروادها الكبار وأساتذتنا راغب عياد – حامد ندا – عبد الهادى الجزار، ولكن حين طغى الصراع السياسى على المشهد عرقل مسيرة استكمال إبداع، وسيطرت التعبيرية التجريدية بعد الحرب العالمية الثانية بحسب توجه أجهزة المخابرات الأمريكية لطمس الهوية الفنية المصرية والعربية، وبدا ما يسمى صناعة التوجه الفنى عالمياً شركات بتصنع التوجه وانتشر مذهب التعبيرية التجريدية بعد سقوط الاتحاد السوفيتى روسيا. وبدأت منذ التعبيرية التجريدية ل«كاندنيسكى» وليست تعبيرية «ماتيس»، لأن «كاندنيسكى» هو صاحب النهج الفلسفى لإرساء مبادئ الليبرالية الحديثة على سبيل الحرية الشخصية والفردية ومبادئ الرأسمالية التى أثرت دول العالم الثالث وحولته إلى عالم استهلاكى وألغيت الخصوصية ومن هذا التوقيت مؤسسات كبيرة فى العالم لها توجه سياسى تبعثه من خلال الفنون بمجالاتها، والحروب من هذه النوعية لها جانب إيجابى هو تمسك الشعوب بحضاراتها وتراثها وتاريخها. ■ هل ترى أثرت التوجهات الغربية على أعمال الشباب؟ - الفن المصرى محط أنظار العالم، ورغم ما هو مسيطر على المشهد من توجهات إلا أننى متفائل بالأجيال الجديدة، مصر نبع الفن والشباب فى حاجة إلى من يتحاور معهم كما تحاوروا معانا روادنا، ولا يجب أن نقلل من شأن ما يقدم من أعمال فنية مهما كانت التوجهات، هؤلاء الشباب يقع على عاتقهم الحركة الفنية المصرية المستقبلية . لا لوم على الشباب لهم كامل الحرية هم من حقهم التجريب فى كل مجالات ولا سيطرة على الفن بتوجه او ممنوع أو ممسوح أو أفضلية توجه على آخر الفن يعنى حرية التعبير والفكر يقدم نفسه بالفن بمفردات الخاصة، والمفروض أننا لا نطلب من الشباب توجهًا فنيًا معينًا أو نطالبه بأسلوب فنى ليحقق جوائز، هذا جرم فى حق الفن وقتل المصداقية أن يملى على الشباب توجه فنى! الحركة الفنية مليئة بشباب موهوبين وعلى درجة كبيرة من الوعى الفنى والثقافى، ولكن القضية الحقيقة تكمن فى المؤسسة الرسمية وكليات الفنون. ■ حدثنا عن ما أسميته قضية فى المؤسسة الرسمية وكليات الفنون؟ المؤسسة الرسمية حين تمنح جوائز للأعمال لا تجمل صفة الأصالة الفكرية هذا المنح هو تسويق للفكرة والتوجه الغربى فكريا، بعضها قد يكون يستحق والبعض الآخر لا يستحق الجائزة. أما كليات الفنون فرغم وجود فنانين كبار فى الكليات إلا أن بعضهم موظفون حملة دكتوراه، والبعض الآخر مشغولون بتجاربهم الفنية وهذا من حقهم ولكن مع الأسف لا يجيدون تدريس الفن، وتدريس الفن مشروع ثقافى يحتاج لتفرغ وأساليب ومناهج ومنظورة فى طرح التعليم حتى لا ينصرف الشباب إلى توجهات أخرى إلا بعد دراسة وإدراك الزخم الحضارى. وفى السنوات الأخيرة تضخمت المشكلة وزاد اتساع المسافة بين المؤهل العلمى الدكتوراه وبين الفنان الممارس للفن وصاحب المشروع الفنى أو المهموم بإشكالية ثقافية يطرحها فنياً، الكثيرون تركوا الفن وينتظرون الدور فى منصب قيادى، رغم أن القيادة ليست لها علاقة بالفن، القيادة إدارة على أسس علمية، ومعايير القيادة تختلف عن معايير الشهرة ونادرًا ما يوفق فنان فى القيادة، قيادة الفن تتطلب صناعة نجم وكشف موهبته، ونحن ينقصنا صناعة نجم ومتابعة منتجه الفنى وتنبئ موهبته، لذلك روادنا أغلبهم ابتعد عن القيادة صنعوا إبداعًا باقيًا بقاء التاريخ لأنه إبداع صافٍ لم يخلط بمنصب أو بأعمال أخرى تعرقل مسيرته.