كتبت - سوزى شكرى واحد من أبرز فنانى مصر والشرق الأوسط وأكثرهم إنتاجا وثراء، طوال رحلته الإبداعية لم يتقولب فى قوالب تشكيلية ثابتة، يملك مهارة الرسم بمختلف الوسائط والتقنيات، فنان يعشق كل الحضارات بمفرداتها وعناصرها وانطبعت هذه الحضارات على ملامح شخصياته وأحاسيسه ووجدانه وخبراته الفنية، ريشته اعتادت أن تثور عليه بين الحين والحين ليعطينا اعمالاً يكتب لها الخلود، هو الفنان التشكيلى عمر النجدى (مواليد القاهرة 1931) الفنان العربى الوحيد الذى تقيم له فرنسا معرضا ومتحفاً كل عام منذ 19 عاماً والى اليوم، ويعرض اعماله بباريس بجوار اعمال بيكاسو وكلود مونيه وبيسارو وسلفادور دالى. اليوم افتتح الفنان عمر النجدى معرضه الجديد بعنوان «المهرج الضاحك الباكى» بقاعة بيكاسو بالزمالك، حيث عرض مجموعة لوحات تصويرية شملت موضوع المهرج، ومشاهد ولقطات من البيئة الشعبية، تحاورنا معه حول مشواره الفنى وحول سبب اخيتاره للموضوع «المهرج الضاحك الباكى» فإلى نص الحوار: ■ نجد فى أعمالك التعددية الثقافية التى تعكس تعدد منابع الرؤية الفنية حدثنا عن هذه التعددية؟ الفنان يملك بأعماقه ثقافات عديدة ومتنوعة منها ثقافات تعايش معها بحكم تواجده فى بيئة لها خصوصية وتفرد فى العادات والتقاليد مكونات معمارية وثقافات فكرية وفلسفية وأنا إقامتى كانت بين الريف والقاهرة وسفريات لدول أوروبية، فى الريف الفلاح المصرى مهما كان جاهلا بأمور فإنه يحمل قدرا من الثقافة ليست قليلة حضارته بداخله حضارة فرعونية قبطية اغريقية ورومانية اكتسبها دون ان يعلم كيف وصلت إليها الكثير، ولكنها تعد موروثات وثقافات تناقلها على مدار السنين، وقد قدمت مشروع تخرجى فى كلية الفنون الجميلة عن الحقل الفلاحى، والريف من الموضوعات الأساسية فى أعمالى، والمرأة لها تواجد إيجابى أتعامل مع كل التناقضات الحياتية. وأيضا الدراسة الاكاديمية التى شكلت مرجعية مهمة تساهم فى اتساع الأفق الفكرية للتكوين الفنى والتقنية، بدايتى من مطلع الخمسينيات درست فى أربع اكاديميات كلية الفنون الجميلة فى القاهرة لمدة خمس سنوات ثم درست فى كلية الفنون التطبيقية خمس سنوات أخرى، وكنت فى قسم الزخرفة، الدراسة مختلفة بين الفنون الجميلة والفنون التطبيقية لكن مهم جدا للفنان أن يدرس كل المجالات الفنية ولا يتوقف عند تخصص واحد البراح الثقافى يؤدى بالتأكيد إلى براح فكرى وتشكيلى، فى كلية الفنون التطبيقية تعلمت تقنيات للعمل بالخامات، ثم سفرت بعيداً عن الريف والقاهرة ودرست فى كلية الفنون الجميلة فى فينسيا بإيطاليا لمدة خمس سنوات، وسنة سادسة درست فن الخزف والجداريات، درست فن الخزف لمدة عام بالاتحاد السوفيتى روسيا أكاديمية الفنون الجميلة، وفى إيطاليا درسنا فن الموزاييك، وأجرينا معادلة درجة الدكتوراه بالمجلس الأعلى للجامعات المصرية، وأيضا مجال النقد الفنى. كل هذه الدراسات كونت مرجعية ثقافية أثرت على ودائما أشعر أنى من الأثرياء أملك كل الحضارات الإنسانية الحضارة الفرعونية والقبطية والإسلامية واليونانية والآشورية والإغريقية واختزنها وأسعد بها عندما أجدها على مسطح لوحاتى وهى تتحاور مع مخزونى البصرى القادم من الريف والقاهرة. ■ أعمالك تنوعت من حيث الأسلوب الفنى والتقنية والمذهب التشكيلى حدثنا عن مراحلك الفنية؟ ببساطة انا فنان «متلون» اقصد طبعا متنوع ولا تشغلنى التصنيفات المذهبية التى يطلقها النقاد على أعمال الفنانين الواقعية التعبيرية التجريدية السريالية باعتبارها تصنيفات تسهل للمشاهد قراءة العمل الفنى، بيكاسو مثلا له مراحل فنية متعددة بينما سلفادرو دالى اختار السريالية وتوقف عندها، كما ذكرت البراح الثقافى يعطنى مساحات فكرية وتكوينات لا حدود لها. لذلك أنا لست فنانا مرحلياً ولا أقف عند أسلوب معين ولا أعتمد على تقنية، كل الأساليب تعاملت معها ورغم ذلك الجميع يعرف أعمالى بمجرد أن يشاهدها، وهذا يرجع إلى أن التنوع لا يلغى الشخصية الفنية للفنان ولا يلغى الخصوصية والفردية، وفى النهاية الهوية الذاتية المصرية تفرض نفسها على الاعمال اجد نفسى اضع رموزاً فرعونية وخطوطاً وكتابات اسلامية ايقونات قبطية اشكالاً من الاغريقية وغيرها، أنا فنان ابن لحظته واحساسى هو البطل الخفى لكل أعمالى وطوال مشوارى أتعامل مع أرقى تعريف للفن «أنه الصدق مع النفس»، يتغير حالتى من عمل إلى آخر حسب الحالة التى اعيشها وبحسب المؤثر الذى وقع عليا بمعنى انى أطرح موضوعى وأسلوبى حسب حالتى، كل الاشياء تأتى فى لحظتها، موضوع التقنية والأسلوب الفنى والألوان التكوين الحركة مساحة العمل. ■ تقيم لك باريس منذ 19عاماً معرضا ومتحفاً حدثنا عن تجربتك مع الغرب؟ السياحة فى مصر تأتى من أجل الآثار والفنون فكيف لا يلقى الفن تقديرا مناسب من المجتمع أو المؤسسات، ما نحصل عليه من جوائز هى نفسها فى قيمتها ودرجاتها ما يحصل عليها الكتاب والمثقفون المصريون ولكن الاهتمام يذهب إلى المثقف ولا يلتفت إلينا، حصلت على شهرتى فى الغرب أكثر من مصر ومهما كانت شهرة الفنان فإن تواجده وتقديره فى بلده أهم بكثير، اشتهرت وعرفت فى باريس أكثر من عالمى العربى، ولست وحدى الذى قدرهم الغرب قبل تقدير الدولة فالكثيرون أيضا من المثقفين والكتاب والنجوم مشهورين فى الغرب أكتر من مصر، ربما يكون عدم اهتمام من المؤسسات المعنية على مدى سنوات كثيرة، لكنى بعد أكثر من 60 عاما مشواراً فنياً وأكثر من مائة معرض أصبح لا يشغلنى إلا استكمال مشوارى الفنى لمصر، أقيم سنويا معرضا واعرض لوحاتى مع كبار الفنانين أمثال بيكاسو ومونيه وبيسارو، أعمالى مصرية فى الموضوعات أو واقعية ولا يصل أحد إلى العالمية بدون التعمق فى مصريته ويطلقون علينا فى الغرب اننا ممثلون لبلدنا حين يكتب بجانب اسمائنا مصر فهذا قيمة مصر التى نتشرف بتمثيلها فنياً. القصة بدأت إن سيدة فرنسية كانت فى احد معارضى فى السفارة الفرنسية بمصر واقتنت أعمالى تطوعت بإقامة متحف خاص لأعمالى فى مقاطعة افيرنوب جنوب العاصمة الفرنسية باريس، قريب من متحف رائد المدرسة الانطباعية كلود مونيه، ويقام كل عام معرضا خاصا لي، وأحضر الآن معرضى رقم 19 بباريس وحصلت مؤخرا على جائزة صالون الخريف بباريس. ■ اختيارك لموضوع «المهرج الضاحك الباكى» هل تقصد من هذا الموضوع رسالة معينة؟ لم أختر الموضوع بل هو الذى اختارنى، وتواجد على مسطح لوحاتى بدون ترتيب مسبق انا أترك الحرية لذاتى تبحث وتكشف عما يشغلنى وأبوح به بالألوان والتكوين والخامات والتقنيات، بدأت ارسم إلى أن وجدت ان الضاحك الباكى هو موضوعى الفنى وتحاوت مع وجدانى كثيرة من هو المهرج؟ هو شخص يقدم للبشر دوراً صعباً يسعدنا ويضحكنا، وربما يكون هو نفسه متألما لكنه فضل سعادة البشر على كل عذابه وآلامه، ومخطئ من يظن ان المهرج شخص أعماقه فارغة او ان الحياة لا تمثل له شيئا، بالعكس لأنه يعرف قيمة الحياة ومؤمن اننا بقدر ما نستطيع ألا نضيعها فى العذاب والألم ولابد ان نقاوم حتى نستمر وهذه التوازنات لا يملكها كل البشر هى ملكة خاصة يتميز بها القلة من البشر، والمقاومة بالابتسامة الراقية صفة اتصف بها كل المصريين، هو يقدم عرضا بألعاب خفيفة بأدواته سواء بالعجل أو الحركات البلهلوانية والفجائية او الشقلبة، ويرتدى ملابسه الملونة الكاروهات الجميلة ويضع مكياجا ساخرا، وبعضهم يضع مكياجا وكأنه شخصان فى وجه شخص واحد، وهنا تكمن فلسفة المهرج. ولأننا هذه الفترة الحرجة نعيش مواقف سياسية متعددة، فربما الإسقاط السياسى على الموضوع وأن المهرج سمة من سمات الزمن كان هذا الوصف اقرب إلى ذهن البعض من كثرة تعمق البشر فى السياسة، فقد يرى البعض ان المهرج صفة لبعض الشخصيات، لكنى لا أقصدها، انا بقدر عشقى لمصر بعيدا عن السياسية فهى تفرق البشر ولا تجمعهم، قصدية الحقيقة هو الموضوع الفنى، ولست بعيدا عن مصر فنياً فقد قدمت جدارية «شباب الثورة» عن ثورة يناير طولها 10 أمتار وعرضها فى قاعة محمود مختار، وجدارية العشاء الأخير عن القدس، ولدى أعمال جدراية لا أجد لها مساحة مناسبة لعرضها بسبب كبر حجمها. ■ أحد الزوار قال إن وضع لوحاتك التصويرية لمشاهد من البيئة الشعبية مقابل لوحات المهرج أعطى للقاعة لقطة مسرحية.. فهل توافق على هذا الرأى؟ المشاهد لديها تفسيرات كثيرة لأعمالى انا لا أعرفها فهو يتوقف امام اللوحات ويحدث له لحظة اعجاب يختلط فيها اللاوعى مع الوعى يكون النتائج ان رسالة معينه وصلت اليه من خلال العمل، انا أترك للمشاهد ان يفسر ويصف بحسب درجة انجذابه، ولا أصحح اى مفاهيم للمشاهد، التنوع فى قراءة العمل نجاح وقيمة تذوقية مهمة جدا. هذا الرأى اعجبنى جدا لانى اثناء ترتيب المعرض ووضع اللوحات شعرت نفس الاحساس وقلت هذا الكلام لمنسقى القاعة: «يظهر كلهم كانوا بيتفرجوا على المهرج وانا اللى رسمتهم»، خصوصا اللوحة الأولى فى مدخل القاعة لمجموعات من البشر فى تكوين حميمى مترابط، ولكل شخصية تعبيرات مختلفة بعضهم مندهش مما يراه، والبعض الآخر سرحان يفكر كيف يسير المهرج على عجلة واحدة، واقفين فى بلكونة لها أعمدة حديدية، وأنا غالبا من اضع شخصياتى فى وضع استطالة هندسية لأن التعامل الهندسى يريح العين ويضيف بعدا جماليا يكمل الابعاد الجمالية الاخرى، وهذا التكوين هو التكوين الشرقى الذى يظهر العلاقات الإنسانية متكاملة. ■ أنت من الفنانين الأوائل الذين استخدموا اللون الذهبى فى أعمالهم فما سبب تواجد هذا اللون فى أعمالك؟ اللون الذهبى قادم معى من الحضارات الفرعونية والقبطية والإسلامية ويضفى على التكوين صفة الضوء الدائم الذى يستمر تأثيره مهما وضعنا بجانبه مجموعات لونية الأحمر أو البرتقالى أو الأصفر أو الأخضر، ونادرا ما يستخدمه الغرب فى لوحاتهم، وأصبحنا مميزين جدا به. ■ كيف ترى العام الجديد وسط الإرهاب الذى تشهده مصر؟ بقدر حزنى على كل الشهداء على مدى عامين إلا انى متفائل جدا أن السنة الجديدة أفضل وأجمل وان مصر قوية، مرت عليها أزمات وحروب كثيرة وتقوم وتستعيد قوتها، المصريون قادرون على التخلص من الإرهاب.