شيرين يونس كاتبة مصرية صدر لها حديثاً مجموعتها القصصية الثانية «صندوق لا يتسع للأحلام» عن دار كيان، تضم المجموعة 26 قصة، أغلبها قصص قصيرة لا تتجاوز الصفحتين أو الثلاثة، وتمزج معظم القصص الواقع بالخيال، من خلال الحضور البارز للأحلام والأسطورة ويظهر هذا فى العديد من القصص. جريدة روزاليوسف التقت الكاتبة وحاورتها حول مجموعتها القصصية وعن أفكارها الثقافية فإلى نص الحوار. ■ رصدت فى معظم قصص المجموعة القيم السلبية للعولمة والتكنولوجيا ونمط الحياة الغارق فى المادية والاستهلاك والفردية.. برأيك إلى أى مدى أصبحنا أسرى لهذه القيم الاستهلاكية وما السبيل للنجاة من هذه الدائرة المخفية التى تحاصرنا وتسعر كل شيء؟ - أنا لست ضد العولمة والتكنولوجيا، بل أعجب بهما إذا أتاحا لى يسرا فى الحياة، وأريحية فى المعاملات، لا تجعلنى استنزف طاقتى وصحتى فى بديهيات، وإذا فتحا لى آفاقا واسعة للإطلاع، من خلال ما ييسرهما من سبل ووسائل، ولكن ما يزعجنى أن نتحول من «فاعلين» إلى مجرد «أسرى» لتلك الوسائل أو لنمط معيشى بعينه، أن يصبح حكمنا على الشخص من خلال الماركات التجارية التى يستخدمها أو يرتديها، أو أن تصبح «العلامة التجارية» هى المعيار وليس الجودة، يهمنى جداً أن نستوعب «تكلفة» ما نختاره من أنماط أو قوالب نضع أنفسنا فيها، «أن نشغل عقلنا»، ونحن نشاهد الإعلانات التجارية وما تبثه من رسائل «سلبية»، يهمنى أنه كما أننا نهتم «بالشوبنج» ومظهرنا الخارجى وما نرتديه من ملابس وما نستعمله من أجهزة هواتف أو حواسب، أن نهتم أيضاً بدواخلنا، بإنسانيتنا سواء فى تعاملنا مع ذواتنا أو مع العالم، أن نوازن بين الأمرين. السبيل للنجاة بالعمل على تنمية الإنسان، أن نمنحه الكثير من الإمكانيات، والقدرة على الاختيار، نيسر له سبل للإطلاع على سبيل المثال، نوفر كتبًا فى المدارس أو للطلبة، أن ندفعه للتفكير دون فرض قيود مسبقة على أحكامه، أن نتيح له فرصة للتراجع لو شعر أو أحب ذلك دون وضعه على المقصلة، أن نعلمه «التفكير النقدي»، ليس عيباً أو حراماً أن تفكر، أن تعترض سواء على رأى الوالدين أو رأى المعلم أو المدير أو على الفقيه أو حتى الدولة. للأسف الشديد، نعم نحن فى الوطن العربى سمتنا الرئيسية التناقض، ندعى التحرر ونقيد أنفسنا بالعديد من المخاوف، ندعى تمسكنا وتفاخرنا بحضارة الماضى ونمط تفكيرنا وحياتنا يفرغ تلك الحضارة من قيمها. ندعى التقدم واستخدام آليات ووسائل تكنولوجية حديثة، ولكن من باب «الوجاهة الاجتماعية أو الدعاية الفارغة للدولة» وليس لتنمية الفرد وتوسيع مداركه. ■ معظم الشخصيات فى قصصك لديهم رغبة جامحة فى التمرد وكسر القيود التى تكبلها إلى أى مدى يمكن للكتابة والإبداع أن تحررنا؟ - سأتحدث عن تجربتى الشخصية، أنا أكره الخوف وأكره كثيراً ما يدفعنى للشعور به، أدى بى ذلك للكثير من الحماقات لمجرد مواجهة ما يخيفني، أو لأثبت لنفسى «أننى أتحلى بالشجاعة ولا أخاف»، ربما لهذا جاءت شخوص المجموعة القصصية لديها رغبة جامحة للتمرد وكسر القيود، وربما التمرد هو سمت بشرى بدليل أن الأطفال يجمحون عادة إليه، ولكن مع تقدم العمر يقيد الإنسان بالعديد من القيود الاجتماعية وضغوطات الحياة ومتطلباتها فتقل لديه مساحة التمرد، لكننى أظن فعلا أن الكتابة بالنسبة للكاتب هى تحرر، تتيح له «براح» سواء من خلال الشخوص أو الأفكار، مساحة بيضاء يستطيع فيها أن يرقص ويغنى ويمارس جميع الموبقات حتى وإن لم يشتهيها، الكاتب فيها يواجه المجتمع وذاته ومخاوفهما معاً، ولكن قدرة الكتابة على تحرير المجتمع فالأمر ليس بهذه السهولة، فهو لن يأتى من خلال كاتب واحد أو كتابة واحدة، أو الكتابة بشكل عام وحدها، ولكن الأمر يحتاج لتغيير نمط التفكير، وأحسب أن الكتابة الجيدة من سبل التغيير «المحمودة». ■ إهداء مجموعتك القصصية جاء لوالدتك قائلة «أنها تسكن كل حكاياتك» كيف كانت علاقتك بها وبرأيك إلى أى مدى تلعب ذكريات طفولتنا دورًا رئيسيا فى مستقبلنا؟ - علمتنى أمى أن أسكن جميع تفاصيل الصورة مع ابنتى كما عاشت تفاصيلها معى ومع إخوتى رغم كثرتهم، هى أم مصرية نموذجية، تلك الأم التى ترى فى أبنائها حياتها، لذلك فطموحها مقتصر على تربية الأبناء والحفاظ عليهم، وهو ما أسكن كثيرًا وكثيرًا من الخوف لديها ودفعها - بقدر إمكانها- لفرض قيود عليهم، لم تستطع استمرار فرضها بطبيعة الحال مع تقدم سنها وأعمارنا، هذا الخوف هو الجانب الذى بتُ التمس لها فيه العذر خاصة حينما أصبحت أمًا أنا أيضاً رغم سعيى الحثيث طوال حياتى للتمرد عليه، وحالياً أحاول جاهدة ألا أسقط فى نفس الفخ فى معاملتى مع ابنتي. ربما انتقل خوف أمى وتمردى إلى حكاياتي، أو شخوصها، وربما ابتدعت أنا بعض تلك المخاوف. للطفولة تأثيرها الذى يشبه الفخ الذى نسقط فيه طوال حياتنا، فى أعمارنا الأولى نحلم بأن نكبر وبالتمرد وتحقيق الذات والأحلام، وحينما نكبر تعود الطفولة لتسكن بذكرياتها وبراءتها التى نفقدها، وأحلامها البسيطة والساذجة، فى خيالاتنا،فنخلق لها هالة مقدسة حتى وإن لم نعشها بشكل مثالي، لذلك فالحكم عليها لا يكون عادة حيادياً، ونصبح أسرى لها لو ظللنا ندور فى فلكها، الطفولة مع كل ما حدث من تغير فى المجتمع لم تعد ببراءة الأمس، وحتى الأمس أيضاً لم يكن أيضاً بريئاً تاماً. لذا فى قصص المجموعتين اللتين أصدرتهما «فى انتظار سانتا» و«صندوق لا يتسع للأحلام» كانت المواجهة مع هذه الطفولة وأحلامها ومحاولة التخلص من شباكها. ■ عنوان المجموعة «صندوق لا يتسع للأحلام» يستدعى ذكريات الطفولة والأحلام الكبيرة والبراءة ويستدعى أيضاً الإحساس بالحصار والانكسار والرغبة فى التمرد.. كيف ترى هذا التناقض الذى يسكن جملة واحدة؟ - لا أظن أن هناك تناقضًا بين الأحلام الكبيرة أو البريئة وبين الرغبة فى التمرد، فالصندوق الذى قصدته سواء من خلال عنوان المجموعة القصصية أو نصوصها هى أحكامنا المسبقة، وأحلامنا البريئة أو الساذجة، جانب منها متعلق بطفولتنا، وجانب آخر خاص بقيمنا وعاداتنا وتقاليدنا التى تنتقل عبر الأجيال كتابوهات أو مقدسات غير قابلة للمراجعة نودعها صناديقنا القديمة، مع شرائطنا الملونة وحكوات الجدة، ولكنها مع الوقت تتحول لقيود على تفكيرنا ورغباتنا فى التغيير، وبالتالى يصبح أمامنا خياران، إما العيش معها داخل الصندوق أو القوقعة، وإما التمرد عليها حينما لا يتسع ذلك الصندوق لكل طموحاتنا أو حينما يعجز فى الإجابة عن أسئلتنا. ■ الموروث الشعبى والدينى حاضران بقوة عبر قصص المجموعة كيف تتعاملين مع هذا الميراث وبرأيك ما السر فى قدرة هذه الحكايات على أدهشنا رغم كل التطور الذى وصل له العالم؟ - شئتُ أم أبيتُ مازال هذا الموروث الشعبى والدينى قدرة عجيبة على التأثير فينا، يبدو كطفولتنا أو تاريخنا المكتوب الذى نتعامل معه بقدسية رغم -كما قلت- أنها ليست بالضرورة مثالية، لذا ظهر هذا الإلحاح باستدعاء هذا الموروث خلال نصوص المجموعتين الصادرتين لى «فى انتظار سانتا»، و«صندوق لا يتسع للأحلام» بغرض كسر التابوه أو تجاوزه بما لا يجرح،أو حتى إيجاد صيغة تصالحية معه. المواجهة ضرورية وإعمال العقل النقدى حتمى للتصالح بين واقعنا وبين ماضينا، لا اعلم إن تم ذلك بنجاح فى النصوص أم لا، لكن الأمر كان ضروريًا وملّحًا بالنسبة لي. ■ هناك العديد من القصص التى يكون فيها الراوى والأبطال ذكوراً.. كيف تعاملت مع الأمر وما أبرز النقاط التى تختلف بين شخصية المرأة والرجل التى تكتبى عنهما أم ترى أنه ليس هناك تمايز بينهما؟ - الأمر ليس بالصعوبة المتصورة، مع انفتاحنا الكبير الذى نعيشه، فلم تعد الإناث فى الحرملك، وهناك العديد من الكاتبات يكتبن على لسان ذكور والعكس أيضاً، المعيار فى النهاية يتوقف على شطارة الكاتب فى «الإعداد» لقصته أو روايته، من خلال استدعاء الخبرات، سواء لنا أو لغيرنا، وتحفيز الحواس وجعلها منبها فعالاً للكتابة الجيدة، الكتابة الجيدة -حسب ظني- لم تعد تنتظر الإلهام أو الوحى الذى يأتى للكاتب فى برجه العالي، بالتأكيد هناك فكرة تدفع الكاتب للكتابة، ولكن الكتابة بشكل محترف تتطلب الكثير من الإعداد، بل هناك قصص كتبت عن عوالم لم يعشها الكاتب، ولكن من خلال البحث فى الكتب أو مواقع الانترنت يمكن استدعاء تلك الأفكار وكتابتها. ■ معظم نصوصك بعيدة بصورة كبيرة عن نمط الكتابة النسوية التى تغرق فى تفاصيل المرأة النفسية وأحلامها وهواجسها ورغبتها فى تحرير جسدها كيف ترين هذه المفارقة وهل تعتقدين أن الكتابة النسوية تدعم حقوق المرأة أم أنها تصنع قوالب وتابوهات جديدة تكبل المرأة؟ - حينما بدأت كتابة مجموعتى القصصية الأولى «فى انتظار سانتا» كان هاجس «الكتابة النسوية» وما يرافقها من اتهامات يقلقني، ولكن رويداً رويداً فهمت الأمر واقتنعت بأن الكتابة النسوية ليست «سُبة» أو اتهامًا، وأنه لا داعى لوضع قيود أو مخاوف على كتاباتنا، بالعكس كما قلت «الكتابة تحرر»، ومعيار الحكم فى النهاية هو جودة العمل وليس هوية أو جنس الكاتب. بشكل عام علينا ألا نصنع لأنفسنا قوالب وتابوهات جديدة سواء للمرأة أو الرجل، يكفينا ما فينا من عُقد وقيود، بل علينا خلق مساحة جديدة لأنفسنا، والتجويد قدر المستطاع، وعدم تكرار نمط الكتابة عن أو من قِبل المرأة، هذا هو ما يهمنى ويشغلنى الآن.