مجموعة " صور مؤجلة للفرجة " للأديب مصطفي البلكي مكونة من اثنتين وعشرين قصة قصيرة اعتمد فيها القاص علي السرد المكثف للأحداث منطلقا من مقولة (كلما اتسعت الرؤياضاقت العبارة ). من هنا يكون للتكثيف أهمية قصوي لإحاطة الجزء بالكل أي بمعني اختيار المفردة اللغوية بالنص القصصي وهذا ليس معناه الشطب الذي يؤدي إلي الإيهام إنما بمعني الاختزال المبني علي رؤية للفضاء الخارجي وخلق حالة من التوتر قادرة علي عمل القلق والذي هو مرتبط ارتباطا وثيقا بالفن الأدبي عموما . وهي أشبه ما يكون بعملية الشحن والتفريغ. تبدو الطبيعة الاجتماعية والاقتصادية للريف المصري من خلال رسم دقيق للشخصيات البطلة سواء كانت امرأة أو رجلا ، ومن المهم أن نقول منذ البداية أن الكاتب ينتصر لهموم المرأة فيمنحها الاهتمام الأكبر ، وتكاد لا تخلو قصة من نزف حقيقي لهموم المرأة الريفية- إلا ما ندر- وخاصة تلك التي تنتمي إلي بيئة الكاتب ، من تهميش وتجهيل ، مؤكدا في جوانب عدة علي معاناة المرأة. ولعل التداعيات النفسية التي تحرك الشخصيات داخل هذا الفضاء القصصي هو ما يدعونا للتفاعل الحميم معها ، والتعاطف مع همومها ومحاولة المشاركة مع الكاتب في البحث عن حلول ونهايات وانتظار ما ستسفر عنه العملية السردية التي يملك زمامها القاص علي لسان شخصياته باقتدار . لعل العنوان يحيلنا إلي طبيعة تقنية الكتابة السردية في هذه المجموعة ، باعتبار العنوان عتبة مهمة لقراءة النصوص، (صور مؤجلة للفرجة ) ما يؤكد أن الكاتب يرسم بالكتابة صوره المؤجلة للقراءة والمشاهدة ، بما تحمله فكرة التأجيل تلك من إهمال القارئ لها أو المنوط به معرفة تفاصيل تلك الصور. ولعل العناوين الداخلية عبرت عن رغبة الكاتب أيضا في التكثيف حيث جاءت عناوين ست قصص عبارة عن كلمة واحدة فقط ( الصندوق عجز- وخز- أنثي- كابوس- عصا)، ومثلها من ثلاث كلمات، بينما جاءت عشر قصص مكونة من كلمتين.مما يمنحنا إشارة علي تنوع العناوين وثراء رقعتها .. ففي قصة الصندوق يعقد الكاتب مقارنة بين علاقتين، الأولي: تتعلق بالجسد الممدد علي فراش الموت ( الجد ) والحاضر الذي يمثل جيل الوسط المهتم بالصندوق المادي .. الذي يتشبث به الجد، إشارة منه أن ذلك الصندوق لا يزال الخيط الرفيع الذي يجبر هذا الجيل علي مهادنته وإبداء الطاعة له، فيما تبدو العلاقة الثانية : بين الجد أيضا والمستقبل المتمثل في الطفل (الحفيد) باعتباره الأمل ، ولعل الجد منحنا الإشارة الواضحة أيضا علي ضرورة تخطي الحاضر إلي المستقبل ، بمراوغة الحاضر حتي لا يتعرض المستقبل لمعوقات استمراره، فيقول الراوي : الصندوق .. كان أمامهم ، يناغي عيونهم بزخارف، يحفظون أدق تفاصيلها، ابتداء بالحواف الصدفية وانتهاء بالجوانب المرسوم عليها أشجار صغيرة، يحط عليها طير مختلف الأحجام، ورجل وحيد في المنتصف بمسك بلجام حصان) . . هنا يرسم الكاتب اللوحة (الصندوقية) ببراعة ويزخرفها بعبق التراث ، فاللوحة تؤكد تراثية الصندوق وفي نفس الوقت تدفع إلي قارئها أن فارسا وحيدا لا يزال يحافظ علي سلامته . يلعب الصندوق في هذه القصة دور البطولة فهو المحرك للأحداث وهو الذي تتعلق به الأعين فيغازل طموحها وأملها، وأيضا الذي يسعي الجد إلي الحفاظ عليه ، فرغم أن الصندوق يمثل مكانا يخبئ داخله إجابات تساؤلاتهم ، إلا أنني أعتبره يمثل أيضا الزمن الذي يخبئ الماضي ويتلاعب بآمال الحاضر ويتطلع إلي المرور إلي المستقبل ، فلم يكن استمرار نظر الأبناء - لأبيهم أو العائلة إلي الجد المفرود علي فراش الموت من باب مداومة الاطمئنان عليه ، بل كانت محاولة للاطمئنان علي وجود الصندوق فيقول : في الأسبوع الأول من مرضه ، كانوا يدخلون عليه ، يلقي كل واحد منهم عليه، ونظرة طويلة إلي الصندوق، تجعل الراحة تحط علي ملامحه )ص 8 تلك هي الصورة النفسية التي رسمها الكاتب في أقل قدر من الكلمات والجمل . وفي النهاية تأتي لحظة الكشف ، يحتضن الماضي المستقبل ويكتشف الأبناء حقيقة الصندوق فيقول في لوحة كاشفة : ( حينما جاءت الشخرة الأخيرة ، دخلوا ، فإذا بيد الجد تنام علي يد الصغير التي تنام بدورها علي الصندوق . سارعت العيون إلي الصندوق ، استخلصوه من الصغير وفتحوه ، انزاح الغطاء ، ووجمت العيون ، وتركوه ، وعينا العجوز شاخصتان إليه ، بينما الصغير يخرج قطعة الخيش ، ويقربها من أنفه ) ص10، لتكتمل اللوحة ويصبح الخيط الواصل بين الماضي بكل عنفوانه وبين المستقبل بكل آماله وأحلامه . السارد يقوم بصياغة المادة المحكية بشكل متتابع عبر صوره المكتوبة المرئية بمعني أنه يحول هذه المادة إلي خطاب لفظي، منطوقاً كان أم مكتوباً، يخبرنا عن العالم المطروح في النص القصصي، فمن البديهي أن يتصل السرد بكل من الأسلوب واللغة، ومن ثم يتضمن الرؤية والأداة. فالأسلوب خاصية فكرية وتعبيرية، علي اعتبار أنه طريقة خاصة في رؤية الأشياء، كما أنه يعد س طريقة الكاتب الخاصة في التفكير والشعور وفي نقل هذا التفكير وهذا الشعور في صورة لغوية خاصة . بينما في قصة " صور مؤجلة للفرجة " يرسم الكاتب لوحاته عبر خيال البطلة / المرأة التي سجن زوجها ، بناء علي معطيات وخبرات واقعية سابقة من خلال نظر المجتمع للمرأة التي تعاني الوحدة في مجتمع ذكوري واضح المعالم ، فيقول : ( وهي تغادر للمرة الثانية ، سمعته يقول لها : جسمك ملبن .. / ارتعشت وغضت الطرف ومضت ). ص11 ولأنها امرأة قد خبرت الحياة .. أصبح لديها القدرة علي المواجهة.. بأسلحة أنثوية مراوغة .. فتلوذ إلي الماضي وتركن له ، وتغض الطرف وتلتزم الصمت .. أدوات لا تستطيع التحكم فيها إلا امرأة تملك طاقة عقلية وخبرة حياتية .. فلا يقودها الانفعال . فيقول الكاتب علي لسان البطلة : ( أثناء ذلك ، كانت تعرف أن الضابط ، بخياله صحبها لغرفة بعيدة ، نزع عنها كل هدومها ، جعلها عريانة ملط .. وهي تستعيد نفسها كان الضابط يقول لها : - زوجك رحلناه للسجن العمومي . ) ص13 كانت كلمات الضابط بمثابة الوخز الذي أصاب قلبها فانتبهت ، ليمنحنا الكاتب صورة النهاية وبداية جديدة لصور أخري مؤجلة للفرجة . وحتي يتسني لنا فهم السرد فهماً صحيحاً يعيننا علي معرفة كل الدلالات الممكنة، سواء في داخل النص القصصي أم خارجه، فلابد أن نضع في الاعتبار أهمية الصيغ السردية، ونقصد بها أصغر الوحدات البنائية في السرد؛ إذ من خلالها يتم تحديد المؤشرات الكبري في هذا السرد. ولعل الصور القصصية المقدمة في قصة "وخز " تؤكد طبيعة الحالة الاجتماعية والاقتصادية للبيئة محل القص ، فاللوحة الأولي نكتشف حالة العوز والاحتياج ، وانعكاس ذلك علي الأطفال وحيويتهم ، وربما اختيارات القاص اللغوية في رسم صوره أكبر دليل علي مهارته في الرسم فيقول مع وضوح حالة الفقر تلك ( العجوز أحنت رأسها ، وأعطت كامل انتباهها لصوت احتكاك حبات القمح بالعلبة الصفيح ، ولما تيقنت بابتعاد الصغار عن بيت لم يعد فيه إلا هي وزوجة ابنها الشابة، وسألتها آخر ربع ؟ قالت : نعم . وسكتت .. ) ص19 اختار الكاتب كلمة ( أحنت) بما يحمله هذا الفعل من دلالات العجز والقهر والألم .. بدأ به رسم لوحته التي مهد لها بلوحة سابقة ، مما يؤكد علي بنائية متكاملة وموحدة للصور داخل لوحة كبيرة للمجتمع الريفي أو البيئة الصعيدية التي ينتمي لها مجمتع القص . لعل الجميل في القصة هو هذا الصراع النفسي للشابة وهي تمسك بمرآة صغيرة مكسورة .. كيف صار وجهها الجميل إلي غابة من الزغب ، وهي رغم كل ذلك لا تستطيع أن تخرج دمعة لرثاء حالها .. و يستدرجنا القص للحظة الوخز وشراء سكوت الطفل بجائزة من الصمغ المنتشر في شجرة السنط ، فتصيبها شوكة ، وكأن الشوكة تلك وهذا الوخز معادلا موضوعيا لتلك الحياة القاسية التي طالما لا تبرح صاحبها ، فالوخز أراه هنا بمثابة القيود الاجتماعية والنفسية لبيئة السرد . فالقصة تؤكد حصارا نفسيا واجتماعيا بشكل يدعو للتعاطف والتألم .. وجاء الوصف متدرجا حسب إيقاع الصورة وحسب انتقال الدلالة من مشهد نفسي إلي أخر حسي مباشر، وساعد ذلك في تدفق الحكي واسترساله دون توقف حتي اقترب في دقته واعتماده علي الصورة المشهدية التي تقوم علي التركيب التصويري وتداخل الصور وتشابكها في فضاء مشترك، مما يؤكد أن النص القصصي يقوم علي إيقاع الصورة المركبة التي تجمع بين الوصف والقراءة الرمزية التي يتعدي فيها التشخيص الدلالة البنائية للنموذج البشري إلي استنطاق الواقع وتداعيات الصورة الخارجية وأثرها في تشكيل الأحداث الداخلية، ويمكن متابعة دلالات الإيقاع وصوره في السرد وطريقة بناء الشخصيات والعناصر الأخري . ولعل قصة أنثي تقدم احتياج من نوع آخر للمرأة ، تعاني منه الكثيرات ممن سافر أزواجهن أو ترمَّلن ، ولأنها بيئة تتسم بقيمها وعاداتها .. فليس من السهل السقوط في دائرة سد الاحتياج الجسدي ( الجنسي) للمرأة بالسهولة . وهذا ما أكد عليه النص دون ولوج السارد إلي صور عارية بل كان حاذقا في رسم صوره النفسية .. لتؤدي وظيفتها المادية . بينما أري أن قصة ( كلب الكانون ) تؤكد علي فكرة أن ما يمكن أن يصير مع الكلب لا يمكن قبوله مع البشر، ظهر ذلك جليا في ثنايا السرد ، بينما تبشر القصة بفعل ثوري ،كما بدا جليا في نهاية القصة ص33.وهو ما يسميه دكتور نادر عبد الخالق في كتابه ( إيقاع الصورة السردية ) ب الصورة النهائية أو الأخيرة ، وفي قصة" ميراث الفتنة " يرسم الكاتب لوحة غاية في الدقة بكل تفاصيلها النفسية والاجتماعية ، وربما ما قامت به المرأة / الزوجة، كان بمثابة الهروب والخروج إلي دائرة المطلق بعيدا عن الحياة الجامدة التي سيَّجت حياتها ، هي محاولة للفكاك ، بينما التزم الزوج الفرجة ومحاولة القبض علي لحظة الانطلاق تلك التي جعلت زوجته تتراقص كغزالة ، ومن المهم أن ندرك من خلال قراءة النص أن الكاتب ترك للمتلقي مساحة شاسعة للتساؤل ، أسئلة تتعلق بعودة الزوجة لسيرتها الأولي ، أم أنها ستحافظ علي فتنتها تلك وحيوية جسدها في جذيه إليه ، مبتعدة عن ذلك الطيف الذي تلوذ إليه .. هل ذلك يعد هروبا منها ؟ أم أنها حالة من الافتتان والهوس ؟ .. وتبدو العلاقة بين الإنسان والمكان حميمية وبين الرجل وزوجته أكثر حميمية كما في قصة نوبة صحيان .. تلك القصة المكثفة لكنها كشفت عن تفاصيل عدة للمكان ووقع الزمان علي الشخصية الأبطال ( الزوج / الزوجة ). متكاملة وموحدة للصور داخل لوحة كبيرة للمجتمع الريفي أو البيئة الصعيدية التي ينتمي لها مجمتع القص . لعل الجميل في القصة هو هذا الصراع النفسي للشابة وهي تمسك بمرآة صغيرة مكسورة .. كيف صار وجهها الجميل إلي غابة من الزغب ، وهي رغم كل ذلك لا تستطيع أن تخرج دمعة لرثاء حالها .. و يستدرجنا القص للحظة الوخز وشراء سكوت الطفل بجائزة من الصمغ المنتشر في شجرة السنط ، فتصيبها شوكة ، وكأن الشوكة تلك وهذا الوخز معادلا موضوعيا لتلك الحياة القاسية التي طالما لا تبرح صاحبها ، فالوخز أراه هنا بمثابة القيود الاجتماعية والنفسية لبيئة السرد . فالقصة تؤكد حصارا نفسيا واجتماعيا بشكل يدعو للتعاطف والتألم .. وجاء الوصف متدرجا حسب إيقاع الصورة وحسب انتقال الدلالة من مشهد نفسي إلي أخر حسي مباشر، وساعد ذلك في تدفق الحكي واسترساله دون توقف حتي اقترب في دقته واعتماده علي الصورة المشهدية التي تقوم علي التركيب التصويري وتداخل الصور وتشابكها في فضاء مشترك، مما يؤكد أن النص القصصي يقوم علي إيقاع الصورة المركبة التي تجمع بين الوصف والقراءة الرمزية التي يتعدي فيها التشخيص الدلالة البنائية للنموذج البشري إلي استنطاق الواقع وتداعيات الصورة الخارجية وأثرها في تشكيل الأحداث الداخلية، ويمكن متابعة دلالات الإيقاع وصوره في السرد وطريقة بناء الشخصيات والعناصر الأخري . ولعل قصة أنثي تقدم احتياج من نوع آخر للمرأة ، تعاني منه الكثيرات ممن سافر أزواجهن أو ترمَّلن ، ولأنها بيئة تتسم بقيمها وعاداتها .. فليس من السهل السقوط في دائرة سد الاحتياج الجسدي ( الجنسي) للمرأة بالسهولة . وهذا ما أكد عليه النص دون ولوج السارد إلي صور عارية بل كان حاذقا في رسم صوره النفسية .. لتؤدي وظيفتها المادية . بينما أري أن قصة ( كلب الكانون ) تؤكد علي فكرة أن ما يمكن أن يصير مع الكلب لا يمكن قبوله مع البشر، ظهر ذلك جليا في ثنايا السرد ، بينما تبشر القصة بفعل ثوري ،كما بدا جليا في نهاية القصة ص33.وهو ما يسميه دكتور نادر عبد الخالق في كتابه ( إيقاع الصورة السردية ) ب الصورة النهائية أو الأخيرة ، وفي قصة" ميراث الفتنة " يرسم الكاتب لوحة غاية في الدقة بكل تفاصيلها النفسية والاجتماعية ، وربما ما قامت به المرأة / الزوجة، كان بمثابة الهروب والخروج إلي دائرة المطلق بعيدا عن الحياة الجامدة التي سيَّجت حياتها ، هي محاولة للفكاك ، بينما التزم الزوج الفرجة ومحاولة القبض علي لحظة الانطلاق تلك التي جعلت زوجته تتراقص كغزالة ، ومن المهم أن ندرك من خلال قراءة النص أن الكاتب ترك للمتلقي مساحة شاسعة للتساؤل ، أسئلة تتعلق بعودة الزوجة لسيرتها الأولي ، أم أنها ستحافظ علي فتنتها تلك وحيوية جسدها في جذيه إليه ، مبتعدة عن ذلك الطيف الذي تلوذ إليه .. هل ذلك يعد هروبا منها ؟ أم أنها حالة من الافتتان والهوس ؟ .. وتبدو العلاقة بين الإنسان والمكان حميمية وبين الرجل وزوجته أكثر حميمية كما في قصة نوبة صحيان .. تلك القصة المكثفة لكنها كشفت عن تفاصيل عدة للمكان ووقع الزمان علي الشخصية الأبطال ( الزوج / الزوجة ).