فى اثنتين وعشرين قصة تتكون منها مجموعة «صور مؤجلة للفرجة» للقاص مصطفى البلكى، يطوف بنا الكاتب من خلالها فى عالمه الذى يعيش فيه ويعايشه ويعلم تمام العلم كيفية التعبير عنه، ألا وهو عالم القرية. فمعظمها وإن لم تكن كلها -قصص المجموعة- تدور أحداثها داخل القرية المصرية بشخوصها وأحداثها وتفاصيلها الحياتية والإنسانية المختلفة، وهو ما يجعل المجموعة ككل انعكاسا لتأثير نشأة الكاتب داخل إحدى القرى، فهو راصدٌ جيد للمتغيرات التى يمر بها ساكنو الريف على المستويات الاجتماعية والنفسية وما يشعرون به من أفراح وأتراح، ولا يكتفى البلكى بعملية الرصد والتدوين فقط، وإنما تظهر عملية الإبداع الفنى والأدبى الحقيقى بما يضفيه من حياة وديناميكية على أبطال قصصه ليجعلنا نشعر بما تشعر به وكأنها شخصيات حقيقية نراها أمامنا ونتعامل معها بشكل مباشر محدد ومحسوس على المستوى الإنسانى. أبدع الكاتب فى خلق شخوص قصصه، فهى ليست شخوصا أحادية البعد تسير فى اتجاه واحد لا تتعداه، بل شخوص تتميز بتركيبتها الإنسانية والنفسية العميقة ذات الأبعاد المتعددة، وإن كان يخيم عليها جميعا/ معظمها حالة من الحزن، الخوف، القلق، الترقب وانتظار شىء مجهول قد يأتى أو لا يأتى، أو فقد حبيب أو زوج، أو موت إنسان عزيز، فهذا يؤكد إنسانيتها وعلى أنها ليست منبتة الصلة عن الواقع المعيش، بل هى داخل هذا الواقع تؤثر فيه كما تتأثر به، وهذا هو الإنسان العميق الثرى، الذى يشعرنا بوجوده فى الحياة وتأثيره فيها، وينعكس هذا بدوره على حركة سير الأحداث داخل القصص، فالصفات التى ذكرتها سابقا، كلها صفات إنسانية تجعل الخط البيانى للحالة النفسية للشخصية القصصية لا يسير على وتيرة واحدة بل يعلو وينخفض حسب ما تمر به الشخصية من ظروف وأحوال اجتماعية متغيرة، وهو ما يدخل فى علاقة طردية مع حركة سير الأحداث داخل القصص، فعندما تمر الشخصية بحالة ما يتحرك معها الحدث صعودا أو هبوطا حسب الحالة النفسية والمزاجية التى يشعر بها البطل، وهو ما ينعكس بدوره على المتلقى فيتجاوب مع أبطال القصص نفسيا ومعنويا، فيعانى مما يعانون منه، يتألم لتألمهم، يشعر بمعاناتهم، وهو ما يؤكد حيوية أبطال القصص وديناميكيتهم، كما يعمل على إبراز إنسانية الإنسان بداخلهم وهو ما يؤكده مصطفى البلكى فى قصص المجموعة. هذا من حيث البناء النفسى لأبطال قصص المجموعة بشكل عام، أما من حيث البناء الموضوعى الداخلى للقصص، فيتناول الكاتب نماذج إنسانية تعكس واقعها وبيئتها وزمانها، وهنا يمكن تقسيم المجموعة إلى قسمين رئيسيين. القسم الأول ويضم القصص التى تندرج تحت ما يسمى فى المجتمع التراحمى القائمة على العلاقات فيه على المودة والتراحم والحب والإخاء والوفاء والمشاعر الإنسانية العميقة المتبادلة بين طرفين أو أكثر حسب مضمون كل قصة، فعلاقات البطل فى القصص التى تدخل فى هذا النطاق مع غيره من الأبطال الرئيسيين أو الهامشيين أو حتى من غيبهم الموت عن مسرح الأحداث داخل القصة، هى علاقات تعتمد على المرجعية الإنسانية حيث تعلو القيم والمشاعر العاطفية والإنسانية على كل ما عاداها من عوامل مادية، قد تجعل الإنسان يرضخ تحتها، فهذا الإنسان التراحمى يعلو ويسمو على مصاعب الحياة وتصبح مشاعره الداخلية النفسية وعلاقاته بمن يحبهم هى كل ما يهمه، هنا لا يتمركز الإنسان حول ذاته وإنما يتجاوزها لما هو أقيم وأجمل وأسمى، وتنتشر مثل هذه العلاقات التراحمية داخل المجتمعات التى لم تصل بعد إلى مراحل متقدمة من العلمنة والتحديث، فهى مجتمعات منغلقة أو شبه منغلقة لا تزال تُعلى من إنسانية الإنسان دون أن تصبح العوامل المادية هى الركيزة الأساسية فى علاقات وتعاملات أفراد هذا المجتمع مع بعضهم البعض، ومن هنا كان اختيار مصطفى البلكى للقرية المصرية كى تدور فيها كل قصص المجموعة اختيارا موفقا تماما، حيث إن مثل هذه العلاقات تعتبر هى الأكثر انتشارا داخل القرية، كما أن علاقات أبطال قصص هذا القسم تؤكد هذا المعنى والاتجاه، ويندرج تحت هذا القسم خمس عشرة قصة تشكل نحو ثلثى قصص المجموعة تقريبا، وهو ما يجعل جو هذا المجتمع التراحمى هو المهيمن عليها، ومنها مثلا قصة «موضع قدم» ص47، هنا الزوجة المحبة لزوجها التى تنتظره وتقلق على تأخره وحين يعود الزوج «محمولا بين أيدى أربعة من رجال... هامدا لا حياة فيه... إلخ» ص49 تأبى أن يدفن الزوج الحبيب فى المكان الطبيعى المخصص للدفن، وتصر على دفنه داخل البيت!! القسم الثانى ويضم القصص التى تندرج تحت ما يسمى فى المجتمع التعاقدى القائمة العلاقات فيه على أساس المرجعية المادية، حين تبهت أو تختفى علاقات المودة والتراحم والتآلف بين البشر وتسود القيم المادية وتعلو ولا شىء يعلو عليها، هنا نجد قمة تمركز الإنسان حول ذاته، فذاته هى مرجعيته حين تغيب المرجعيات الأخرى المتجاوزة العليا، ويصبح كل همه هو تحقيق أهدافه وطموحاته الخاصة بغض النظر عن أى قيم إنسانية أو أخلاقية أو معنوية أخرى، ويضم هذا القسم سبع قصص، هى: «الصندوق»، «كلب الكانون»، «أنثى»، «فرصة أخيرة»، «شارع المنتزه»، «ركن النسيان«،«وقائع موت رجل عادى». ففى القصة الأولى من المجموعة «الصندوق»، تبدأ أولى ملامح الإنسان التعاقدى فى الظهور من خلال علاقة الأبناء والأحفاد بالأب/الجد، فلم يعد اهتمام الأبناء والأحفاد بالجد -الممدد على فراش الموت- الذى يرمز إلى الماضى وعلاقاته الإنسانية الحميمة، بل أصبح جُل اهتمامهم منصبا على الصندوق الذى يرمز بدوره إلى التاريخ والأصالة، والذى يبدو من سياق القصة أن الجد يحتفظ به عن آبائه وأجداده، ولكن اهتمامهم به ليس اهتماما بما يعنيه من قيمة معنوية أو إنسانية مركبة كذكرى جميلة تذكرهم بالآباء والأجداد تجعلهم يحتفظون به ويحافظون عليه، وإنما بما اعتقدوه من أن بداخله قيمة مادية (فلوس، مجوهرات أو ما شابه ذلك)، فقد انصرفوا عن الاهتمام بالجد الذى يحتضر وانحصر اهتمامهم بالصندوق وما يمكن أن يحتويه، وتصل صدمتهم إلى قمتها حين يفتحون الصندوق ولا يجدون به سوى قطعة من «الخيش»! وتظهر دقة وروعة استخدام مصطفى البلكى بعض المفردات عميقة الدلالة كما فى مفردة «وجمت العيون» ص10، فالوجوم هو السكوت مع غيظ وهمّ، والأبناء لم يعد همهم منصبا على موت الأب، وإنما أصبحوا مهمومين وفى حالة غيظ شديد لأنهم لم يجدوا فى الصندوق ما كانوا يتوقعونه من أشياء مادية ذات قيمة، وليس مجرد قطعة من «الخيش» ليست لها قيمة مادية وإنما قيمتها معنوية بحتة! وذلك فى حالة غياب تام لتأثير حالة الأب/ الجد الميت على عيونهم أو حالتهم المعنوية، فالعيون هى أول ما يعكس حالة الإنسان النفسية الجوانية وحينما تصبح عيونهم واجمة فهو تجسيد لحالتهم النفسية آنذاك -ناحية الصندوق وليس الأب-فضلا عما تعنيه كلمة «وجوم» فى حد ذاتها من معان كما أشرت سابقا. من أهم القصص التى تدخل فى نطاق هذا القسم وهى تعدّ من وجهة نظرى من أهم قصص المجموعة لما تحمله من دلالات اجتماعية عظيمة، هى قصة «ركن النسيان»، فالزوجة تخرج إلى سوق العمل وكنتيجة لضغوط الحياة عليها وعدم قدرتها النفسية والجسمانية على مقاومة واقعها، تسقط فى الرذيلة! ما يميز هذه المجموعة كذلك أن أبطال القصص غير مهزومين على المستوى النفسى، بل هم أبطال لديهم مقدرة عالية على المقاومة، نعم يتعرضون لضغوط ولعوامل اجتماعية ونفسية تجعلهم يلينون أحيانا، أو ينكسرون أحيانا أخرى، إلا أنهم قادرون على النهوض والاستمرار فى مكابدة الحياة ومحيطهم الإنسانى والاجتماعى، وهو ما يظهر فى قصص مثل «صور مؤجلة للفرجة»، «وخز»، «سؤال الغفلة»، «موضع قدم»، البطل كما فى قصة «أنثى»، البطلة فى قصة «رائحة الخبز المحترق»، كما يظهر هذا الجانب صراحة فى آخر قصة «سرعان ما يتكلم لاحقا» ص58، حين يصرح السارد فى نهايتها: «الحياة الذليلة هى الموت بعينه»، وأيضا قصة «فرصة أخيرة»، وقصة «عصا» حيث يظهر من خلال إصرار الأطفال وعنادهم المتصاعد فى مواجهة الرجل صاحب البيت إلى أن يتحقق لهم ما يريدون، كما تظهر دعوة صريحة لإظهار أجمل ما فى الإنسان وهى مقاومته للظلم والعدوان، والدفاع عن ماله وجهده وتعبه كما فى قصة «كلب الكانون».