يضعنا القاص ( محمد خليل ) فى مجموعته القصصية ( الشمس لاتغيب كثيرا ) أمام أربع عشر قصة قصيرة .. لايمكن لأى فارئ متأن لها إلا أن تستوقفه حائرا متسائلا : من أى زاوية يمكن الدخول إلى عوالمها المكتظة بالأحداث والشخصيات وأسرار اللغة الشغوفة باللقطة المتقنة والعبارة الأنيقة .. والجمل القصصيةالمستوفية لشروطها .. فالقصص نوع من أنواع القص البانورانى .. تجسده حياة عريضة متشعبة الأطراف .. وذات مساحات واسعة يعيش فوقها أناس منحدرون من طبقة واحدة .. تعيش على هامش الحاة .. وتحت خط الفقر والعوز والمعاناة الشاقة وهم يبحثون عن موقع قدم لهم .. فى مساحة معترك يسيطر عليه أصحاب الجاه والمال والسلطان .. فمنذ القصة الأولى ( المرسم ) ص7 والتى تضعنا أمام فنان محبط .. توقف عن الرسم .. وأغلق مرسمه وزتحاول جاهدة أن تعيده إلى فنه (( جلست تراقبه فى صمت .. تحاول العثور على أسلوب آخر .. بعد أن فشلت معه كل الأساليب .. تنتظر اللحظة التى تراه وقد آب إلى فرشاته وألوانه )) ويطول انتظار تلك اللحظة المترقبة.. وتتكرر محاولات الزوجة لإعادته إلى المرسم فلاتفلح .. حتى تحين الحظة المرتقبة عن طريق رسالة رسمية وصلت الفنان .. وعلى الرغم من عدم اهتمامه بها .. إلا أن الزوجة تظل تلاحقه حتى يفتح الرسالة ويكون الفرج والعودة إلى المرسم .. (( لوحت بالرسالة فى يدها وهى تقول )) : - ألم أقل لك ولم تصدقنى . . رمقها مختلسا نظرة من الرسالة .. ورد عليها متسائلا : - عن أى شيئ تتحدثين ؟ .. أجابت وهى تبحث فى جيوبه عن مفتاح المرسم : - عن يقينى فى أن شمس الفن لن تترككفى الظل إلى الأبد .. إرتسمت الدهشة فى عينيه .. لم تدم الدهشة طويلا .. تأبطت ذراعه .. سارا نحوالمرسم .. عندما انفرجت ضلفة الباب تدفقت فى صدره لهفة السنوات العجاف .. دلف يتحسس فى حب أدواته وحوامل لوحاته .. عانفث عيناه كل شيئ فى المرسم .. وقف طويلا يتأمل اللوحة التى لم يتمها .. والتى كان موضوعها من أسطورة ( إيزيس وأوزوريس ) وزوجته تروح وتجيئ بين اللوحات تنفض الغبار عنها استعدادا لنقلها إلى المعرض المطلوب بمناسبة تكريم زوجها ) .. وحتى القصة الأخيرة فى المجموعة ( ليلة فى السماء )ص131 .. والسارد يروى فيها معاناة الزانى الذى يشعر بعدم طهاته رغم الإغتسال بعد أن قرأ السطر الثانى من سورة النور : (( الزانية والزانى ....)) .. ( فلأول مرة يشعر بعدم طهارته رغم الإغتسال .. أوضار النطفة الخائفة لاتغسلها مياه المحيطات .. تمحوها كلمة صادقة تنبع من عضو يسكن يسار الصدر) ص 131 .. أمام معاناته النفسية ووخز الضمير لايجد غير النسيان ملاذا يهرب منه .. والنسيان يفتح ذاكرة الماضى ..(( كانت أيام !.. أيام كان الإنسان يبيت على الطوى ويقول الحمد لله )) ص132 .. ويتابع السارد مشكلة بطله الموزع بين الندم والنسيان وذاكرة الأيام حتى يصل إلى مسامعه أن مرأة تتحدى بكل مفاتن جسدها عيون المدينة وأهلها .. وعندما التقى بها فى الطريق : (( إلتقيت بها فى الطريق .. أدارت رأسى .. سال لعابى .. فاكهة جديدة ولابد أن أكون أول من يقطفها ويشعر بمذاقها )) ص132 ويون له ذلك .. ويتبنى السارد رواية الإستسلام واندفاع الشبق الذى أشعل جسديهما .. وهنا يبرع السارد فى وصف تلك اللحظات التى تجمعهما على فراش الخطيئة .. موظفا اللغة النشطة فى تصوير ماكان بينهما حتى يستسلم للنوم ويدخل فى متاهات حلم غريب (( زلزلت الأرض زلزالها .. قذفت ماتحتها .. برزت أثقال من العظام تجمعت .. فى لحظات تركبت .. تشكلت .. تحدثت .. تساءلت ..ناطحات السحاب تقوضت ..حصيدا حضارتها تحولت ص133 .. ويتابع السارد بتلك اللغة المرعبة وصف الحدث الذى يراه فى نومه وليقوده إلى السماء .. ويلتقى فى السماء( بفرويد .. وديكارت .. وشارل بودلير ..ونزار .. وكثيرين ممن كانوا يدورون حول أنفسهم ويصرخون ..ويزداد المشهد فظاعة عندما يصل الأمر إلى ملكات ( الإستربتيز ) حيث يقول الكاتب : (( برزت من أجسادهن الأفاعى وأخذت سمت الأخطبوط .. من ثقوب الجماجم إنتزعت زمردات الحياة .. تلك التى وهبها الله لنا فأهملناها حتى فقدت قيمتها )) ص134 .. وفجأة يتوقف الصراخ .. وتفتح خزائن .. وتنتشر فوق الرؤوس صحائف بأسماء الموجودين .. وانبثق ضوء أقوى من ضياء الشمس والقمر والنجوم ...... عاد الصوت يجلجل من جديد : - إنظروا فى صحائفكم ص135 .. ويستمر السارد فى وصف هذا المشهد المأساوى وكل واحد يتمنى أن تبلعه الأرض ويفنى قبل أن يقف مثل هذا الموقف (( الشفاعة يامن امتطى براق السماء )) .. ألم يقولوا وقلت لكم ؟ ..ألم يبلغوكم وأبلغتكم ؟.. خذنى .. إنقذنى ..إنجدنى ..إشفع لى .. إلتقيت بأبى فى الطريق .. تشبثت به .. فر منى يبحث عن أبيه .. ركضت نحوى (( شهرزاد )) عارية حائرة ملهوفة وجلة ملتاعة تلطم خديها .. تنشب أظافرها فى نهديها وفخذيها تسألنى النجدة .. وجم لسانى .. عدوت فى اتجاهين مختلفين ص 136 .. ويتطور الموقف وتزداد حرارته .. وينقسم المجتمعون إلى فريقين ..فريق يبتسم ويضحك ..وعلى وجوههم ظهرت سمات السعادة بالخلاص .. وصوت رقيق جميل يصيح فيهم : - قد وعدنا المتقين فادخلوها بسلام آمنين ص137 وفريق تجسد الندم فى عيونهم صيرها بؤرا تنضح بالقطران : (( تلفت والفريق الذى يضمنى فى توجس ورعب .. وما لبث أن صاح الصوت فينا : - قد كفرتم فادخلوا أبواب جهنم خالدين فبئس مثوى المتكبرين )) ص137 فى هذا المستوى الذى وصل إليه بطل القصة المذنب الذى يدفع ثمن مااقترفته يداه من أخطاء يلتقى ( بشهر زاد ) ويدير السارد بينهما حوارا يحاول من خلاله كل منهما أن يرمى الذنب على الآخر : (( أبصرت ( شهرزاد ) مطروحة بجوارى يسح الدمع من عينيها .. دفعتها .. جذبت ثدييها أنهش فيهما بأظافرى وأنا أردد : ماالعمل الآن .. مالعمل ؟؟؟ .. صرخت وأعادت على السيؤال : - أرأيت المصير ياشهرذاد ؟؟؟.. حاولت إيقاف الدموع التى تهطل من عينى بغزارة : - أنت الذى غررت بى ياشهريار .. لطمت وجهى وأنا أصيح : - لماذا جئت معى ؟.. لماذا سرت ورائى ؟ ص137 لم يبق أمامه سوى طلب الرحمة والمغفرة .. فينهض لتواجهه ومن معه أبواب سبعة .. حاول الفرار فلم يقدر .. حاول الإنحناء فلم يستطع .. حاول رفع يديه فشعر أنهما مغلولتان ويتدحرج وفريقه مثل براميل مملوءة بزيت مشتعل .. (( أبصرت الأجساد تتلوى .. وانطلق نحو الأبواب سؤال : - هل امتلأت .. وأسرعت الألسن بالجواب : -هل من مزيد ؟ ص139 .. ويستمر السارد فى وصف مايعانيه اصحاب الفريق المذنب حتى بدأت ألسنتهم تنادى راعى الأغنام .. تطلب الشفاعة وأن يعودوا ليعملوا عملا صالحا : (( إنطلقت ألسنتنا تنادى راعى الأغنام وهو مازال على استدارته رافعا رأسه أمام الأبواب .. توقفنا .. فى الأجساد المفحومة حدجنا .. وبكل خوفنا وهلعنا وعذاباتنا جأرنا : - تبنا .. أعيدونا نعمل صالحا .. ورن الجرس والكتاب مازال مفتوحا على السطر الثانى من أول سورة النورص140 .. ليلة فى السماء قصة غير عادية .. إجتهد القاص محمد خليل كثيرا فى صياغتها وبنائها الدرامى المتصاعد الذى صور مستويات القصة بدءا من حالات الندم والنسيان والعودة بالذاكرة إلى الأيام الخوالى فى لقائه بشهر زاد .. ذلك اللقاء الجسدى المحموم الذى انتهى بالندم والحلم المرعب الذى نقله إلى السماء ليحاسب على إثمه.. وفى مستويات الحلم يبرع القاص فى تصويره وتطويره حتى انتهت القصة بالخاتمة التى فتحت عينى البطل على الكتاب الكريم وسورة النور .. فالقصة فى موضوعها إشتغلت على قضيتى الثواب والعقاب .. والجنة والنار .. ومآل المذنبين النار التى وقودها الناس والحجارة .. وبالمقابل فإن للمتقين جنات تجرى من تحتها الأنهار .. واما على مستوى الشكل فقد قدم القاص أنموذجا رائعا للقص الذى ينهض به على قوة اللغة .. وحكمة توظيفها بالشكل الفنى المناسب الذى يتوازى مع الموقف نفسه .. ولذلك جاءت اللغة فى مستويات مختلفة تبعا للموقف .. ففى موقف الشوق كانت اللغة شيقة وملائمة للموقف .. وفى لقاءات الجسد كانت لغة محمومة معبرة عن خلجات الجسد وتضاريسه فى فعله وانفعاله .. وفى مسرود الحلم كانت اللغة مرعبة قوية على حوامل جمل قصيرة تتماهى بقوة وجدارة مع الموقف الذى يقف الناس فيه فى تلك الليلة ليلقى صحائف أعماله ويحاسب عليها .. ومن خلال تقانة الشغل وقيمة المضمون ومسوغاته وآفاقه قدم محمد خليل قصة متكاملة وعلى درجة كبيرة من الأهمية من حيث الشكل والمضمون والممتع فى هذه القصص أنها كثيرة المفاجآت التى تضع قارئا أمام شغل تقنى محكم البناء مستوف لشروط القص الماتع الناجح .. فى قصة ( مقعد فى الدرجة الاولى ) ص21 تتبدى التقانة القصصية وهى تؤسس لمعيار فنى واضح المعالم .. فالبطل مسحوق .. حالم .. أحب أن يركب يوما فى قطار الدرجة الأولى .. ليس لسعة يده وغناه ..ولس من أجل الرفاهية .. ولا لما يعانيه ركاب الدرجة الثانية أو الثالثة .. وغنما لأنه أراد أن يشعر—ولو لمرة واحدة فى حياته – بقيمته الإنسانية ماديا ومعنويا ..(( ولكنه غامر هذه المرة .. رغم ما لهذه المغامرة من نتائج سيئة .. أقلها أن تخاصمه زوجته يوما كاملا .. لكن النوافذ المغلقة .. والستائر الجميلة .. والمقاعد الوثيرة .. أشعلت فى نفسه الرغبة فى ركوب هذه العربات ولو لمرة واحدة فى حياته الطويلة ص21 .. ولكن .. ثمة سبب آخر رفع جموح الرغبة .. فهو يحمل فى جيبه مبلغا كبيرا من المال حصل عليه كرد معنوى فى قضية رفعها ضد واحد من ركاب الدرجة الأولى كان أهانه لسبب ما ..(( المبلغ الذى حصل عليه محكوم به فى قضية رد اعتبار رفعها ضد واحد من ركاب الدرجة الأولى لكونه أهانه ذات يوم وصفعه على قفاه إثر مناقشة حادة حدثت بينهما على رصيف المحطة ص22 وعندما يصعد المركبة يجد أن رجلا أخر سبقه وجلس فى المقعد المخصص له فيضطر إلى الوقوف .. شق الواقفين وهو يحتضن جيب جاكته حتى بلغ مقعده المرقوم فى التذكرة .. أخرجها من جيبه وحدق فيها ذاهلا .. إستأذن شاغل المقعد .. أبرز له تذكرته .. وجدها مرقومة بنفس الرقم .. إستسلم على مضض .. حدثته نفسه ألا يكون أشعبيا ..وأن يقنع بالوقوف .. وحسبه أنه واقف بين ركاب الدرجة الأولى ص21 .. وينطلق القطار .. ويغرق الرجل الواقف فى بح أحلامه .. وما سيفعل بالثروة المركونة فى جيبه.. والتى سيودع بها سنوات القحط ويدخل فى عداد رجال الأعمال .. ويزوج طفلته إلهام .. ويشترى سيارة خاصة .. ويصبح من ذوى الأملاك .. يستمر فى أحلامه وتخيلاته حتى يصل القطار ويضعنا أمام الخاتمة المفتوحة على الإدهاش والمفاجأة .. (( توقف القطار .. غادر العربة ..إجتاز بوابة المحطة كالطاووس .. فى الميدان المواجه للمحطة تحسس جيبه .. صرخ واستدار راكضا دافعا بيديه مراقب البوابة الذى أراد أن يستوقفه.. إنغرس فوق الرصيف يرسل عينيه نحو نحو عربة الدرجة الأولى التى بدت شيئا صغيرا يتلاشى فى البعيد .. حاول التعلق بمؤخرة آخرعربات القطار .. لطمت المؤخرة كفه وانطلقت تغيب فى البعيد أيضا .. ركبتاه خانتاه وسقط ص 240 هذه الخاتمة الإدهاشية لراكب قطار الدرجة الأولى تشكل الحامل الأهم لبنية القصة المشغولة بحرفية كاملة .. وفى قصة ( الضحية ) تفاجئنا قصة العامل الصعيدى الذى ترك قريته ليعمل عامل بناء فى العاصمة التى زادت فى حرمانه وشقائه .. يعمل بأجر لايكاد يسد رمقه ورمق أسرته وقد حاول أن يأخذ أجر يوم إضافى من صاحب العمارة ليشترى بعض اللحم لأهل بيته .. فينهض بينهما حوار يبكت دواخل الإنسان الضعيف المغلوب على أمره .. : (( إستجمع أدهم شجاعته وطلب أجر اليوم التالى من صاحب العمارة .. بوغت به يرمقه بنظرة تأنيب ويقول ساخرا : _ وكيف أضمن أنك لن تتخلف غدا ؟ .. جائز جدا أن تأخذ النقود وتهرب .. إمتقع وجه أدهم وكأنما هوى صاحب العمارة بصفعة على عينه .. لكنه تماسك وقال مستعطفا : -- نحن نعيش على الشرف ياسعادة البيه .. خدامك من قبلى يابيه .. طظ .. لستم أنبياء .. بل مجموعة من القتلة واللصوص وسفاكى الدماء .. تغاضى أدهم عن الإهانة وقال وهو ينظر إلى خروف فى يد أحد خدم صاحب العمارة : - إنى فى حاجة شديدة إلى اليومية .. كل سنة وانت طيب .. اليوم وقفة العيد الكبير .. وأريد أن أشترى قليلا من اللحم للأولاد .. - تأفف صاحب العمارة و‘لن فى صلف وبصوت عال : سوف أمنحك نصف يومية فقط .. واترك فأسك وكوريكك حتى تأتى غدا ص28 - هذا الحوار لايجسد فقط الهوة بين طبقتين .. طبقة مسحوقة فقيرة بالكاد تسد رمقها .. وطبقة غنية مستبدة تحتكر عرق الكادحين وتستغلهم إلى أبعد نقطة .. ومع ذلك يستسلم ويرهن أدواته ويأخذ نصف اليومية وينصرف سعيدا برغم مالحقه من إهانة .. مضى يبحث عن قصاب .. وتتباطأ خطواته ويفكر بندم لماذا غادر النجع إلى جحيم العاصمة .. (( جئت أبحث عن حياة أكثر رفاهية فى القاهرة .. صدمنى واقعها المرير )) .. ويغرق فى أحلامه وندمه غير منتبه لما يجرى حوله حتى كاد يقع بين عجلات إحدى السيارات .. (( فى هذه اللحظة فقط أحس بقيمة النجع .. شعر بالجوع .. هتفت أمعاؤه تطالبه ( بالمش والبتاو والجبن القريش ) .. سال لعابه .. إزدرده ..وابتلع معه ذكريات النجع وحنانه إليه .. تبدى لعينيه جنة فيحاء .. الايضيع العمر فيها هباء .. تنهد ص 29 - ويقف أمام أحد محلات القصابين المزدحم بالزبائن وهم يطلبون كميات كبيرة من اللحم .. فما كان منه إلا أن أقترب من صاحب المحل وقال بصوت خفيض :-- والنبى لوسمحت كيلو بعضمه يامعلم .. رمقه المعلم شذرا ولم يرد .. أعاد أدهم الطلب مرة أخرى .. ثار القصاب قائلا : إنتظر .. إبلع ريقك .. صعيدى جلف صحيح .. - لم يكن فى حلقه ريق ليبتلعه .. وإنما ابتلع الإهانة أيضا ص30 - ويبدأمعمار القصة بالتطور يماثله تطور أحداث الشخصية المسحوقة .. فبعد أن يأخذ أدهم ورقة اللحم يضعنا القاص مرة أخرى مع مفاجأة جديدة تقع لهذا الرجل المتعب حيث يفاجئه صبى أمام مبنى ماسبيرو ويخطف من يده ورقة اللحم ويجرى بسرعة البرق .. فما كان منه إلا أن ركض خلفه يجتاز السيارات وهو يصرخ كمن ألمت به لوثة .. ويتابع الركض خلف الصبى من شارع إلى آخر حتى استطاع ان يمسكه .. وجتمع الناس حولهما .. أدهم يدافع عن ورقة اللحم والصبى يدعى أن الورقة له .. فينقسم المجتمعون إلى فريقين .. (( الولد مظلوم لايمكن أن يقدم على مثل هذا العمل )) .. (( وهل تظن أن هذا الرجل الطيب يختلق مثل هذه الأكذوبة من أجل كيلو من اللحم ؟ )) .. (( تبدو على وجهه علامات المنحرفين )) .. (( ولماذا لايكون الرجل من المضللين ؟ ))ص31 - وثارجدل طويل بين مؤيدى الصبى ومعارضيه .. وأدهم يدور حوله قابضا على ذراعيع مصمما على أن يقوده إلى مخفر الشرطة ..ولايجد الصبى أمام إصرارأدهم على استعادة حقه حتى بدت الحقيقة تظهر للمجتمعين فيتقدم أحد مؤيدى الصبى ويسأله : -- هل صحيح أنك ........ ؟ إغرورقت عينا الطفل وتمتم .. : -- سامحونى .. إخوتى تاقوا إليها ص32 .. ويمضى أدهم مع ورقة اللحم وقد تاقت نفسه لكأس من الشاى .. فيجلس على كرسى فى المقهى ويطلب الشاى ويذهب فى نوم لايستيقظ منه إلا على صوت صاحب المقهى وهو يضع الشاى أمامه ليضعنا القاص فى أمام مفاجأة جديدة لاأدهم وورقة اللحم التى وجدها بين قدمى كلب أقعى بجوار الحائط يمزقها بأنيابه ..(( حتى انت يابن ستين كلب )) .. - شعر الكلب بالخطر المقبل نحوه .. عوى مهددا غريمه الذى يبغى إفساد غنمه عليه .. - شعر الكلب بالخطر المقبل نحوه .. عوى مهددا غريمه الذى يبغى إفساد غنمه عليه.. دنا منه أدهم .. حمل قطعة اللحم بين أسنانه وانطلق واثبا مطلقا أرجله للريح .. رفع أدهم أطراف جلبابه بين أسنانه وانطلق نحوه ثائرا حانقا ص34.. وتستمر المطاردة بين أدهم والكلب من شارع إلى شارع حتى يقفز الكلب درج عمارة قفزات متتالية وأدهم خلفه .. بينما كان الكلب يقفز درجات الطابق الأخيرتعثر أدهم فى جلبابه وانكفأعلى وجهه .. صرخ صرخة رددت صداها جدران العمارة .. وضع يده يتحسس مالحق به من أذى .. نظر إلى أصابعه .. رأى سائلا لزجا يعلق براحته فمد يده فى فمه .. راح يرنو إليه دهشا ساخطا .. رمق الكلب بنظرة حادة وهو يقف متحديا أمام الباب المؤدى إلى السطح وقطعة اللحم تحت أقدامه .. فتح الكلب فمه وتدلى لسانه ..(( غدا أقترض يومية أخرى من صاحب العمارة واستدار وسكان العمارة يتساءلون : -- ماذا حدث ؟ ص34 - مثل هذا القص المحكم لاتخلو منه قصة من قصص المجموعة التى تضعنا بمستوياتهاومفارقاتهاومفاجآتها وخواتيمها الإدهاشية أمام قاص يملك أدوات القص ومفاتيحه الفنية ..فاشتغل على المفارقة التى تنهل من مناهل ذات صلة وثيقة بالطبقة الفقيرة الكادحة التىتثاورها يوميات الحياة التى لاتكف عنطرح مفرزات السوداوية لتشكل مجموعة من الإشكاليات التى يأتى من أهمها مايلى : - إشكالية التناول : - والتناول فى مستويات القص فى المجموعة غالبا مايكون منصبا على بؤرة الحدث التنويرية والمفتاحية التى ترتكز على البنية القصصية فى شكلها ومضمونها .. وحتى يحقق التناول هدفه الفنى .. نجد محمد خليل يبرز وبإتقان وصفيات الحدث فى الأماكن والشخصيات .. حيث هناك نقلة تضاف على السياق الدرامى .. فتأخذ الوصفيات نقطات مركزة ومشغولة بشكل جيد.. وجدناها فى قصص ( المرسم .. أحزان عبد النبى .. ومعاناة أدهم فى قصة الضحية ) ..وفى قصص ( الليل والكلاب .. رجل المهمات الشاقة .. الرقص حول جثة رجل حى .. الشمس لاتغيب كثيرا ) حيث اشتغل القاص عليها بقوة من أجل إيضاح المغزى العام فى صياغة القصة التى تنهض على علاقات تبادلية بين الزمان والمكان والشخصات من أجل تعميق الذروة الدرامية .. وهذا ماساعد على نمو الشخصيات والمواقف حتى ليبدأ التقاط شيئ من أشياء كثيرة .. - إشكالية اللغة : - إشكالية اللغة السريعة والخاطفة والموظفة والتى تتماهى مع الموقف الذى تعبر عنه .. وقد عرف القاص كيف يستغل اللغة ويحركها بعيدا عن التقعر أو الجنوح إلى الغموض حتى تبدو فى عدد من القصص قريبة جدا من اللغة الشعرية .. - إشكالية الهدف والغاية : - الهدف كما يبدو من القصص جميعها يتلخص فى الشغل على بنية قصصية مستوفية لشروطها .. خاضعة لأركانها .. والحدث يتركز فى التفانى المخلص للقصة روحا وتمثلا وتخييلا .. ثم كتابتها بالقوة التى تساعدها على البقاء والسيرورة .. - ولعل من أهم العوامل التى ساعدت على تكاملية الغاية والحدث .. وانصهارهما فى وحدة الشغل القصصى الجاد مايلى : - 1 – إهتمام محمد خليل الشديد بالطبقة الفقيرة المسحوقة التى تعيش فى قاع المدينة ( الرسام فى المرسم .. راكب الدرجة الأولى .. أدهم فى الضحية .. عبد النبى فى أحزانه .. - 2 – ولع القاص فى مسرحة القصة كما فى قصص ( الضحية .. أحزان عبد النبى .. الليل والكلاب ) فالقارئ لهذه القصص يشعر أنه أمام شخصيات تتحرك ضمن وحدتى الزمان والمكان .. كما أن الحوارالقائم بين الشخصيات حوار تمثيلى مسرحى .. ولذلك كان من السهل جدا تحويلها إلى نصوص مسرحية أو إذاعية .. وهذا الشغل الذى يتماهى مع فن المسرح يشكل وثبة باتجاه النص القصصى القابل لأن يعيش ممسرحا ومسلسلا ..لاسيما إذا عرفنا أن كثيرا من المسرحيات والأفلام والمسلسلات كان أصلها قصة .. - 3 - اللقطات المفاجئة : - اللقطة المفاجئة التى ترعب الحدث وتخطف عينى المتلقى .. هذه اللقطة وجدناها فى قصص ( الضحية .. مقعد فى الدرجة الأولى .. وتميزت فى قصة ليلة فى السماء .. حيث تأتى اللقطة المباغتة سواء فى سياقات القص أو خاتمته حالة إدهاشية تحفز القاص والمتلقى على حد سواء .. فى الوقت الذى ترفع فيه حرارة القص سواء عن طريق السارد أو بوساطة المتلقى .. أو عن طريق الشخصيات أنفسهم .. مما يدعم حركة القص ويدفعه فى اتجاه التأزم الدرامى المطلوب بقوة فى مثل هذا القص المتقن والناجح .. - هذه الإشكاليات فى تنازعية القص الذى يتبناه القاص بين الشكل القصصى الفنى والمطور .. وبين المضمون الحياتى الإجتماعى والإنسانى .. تجعلنا نؤكد على أن القاص ( محمد خليل ) إستطاع بقوة وجدارة أن يمد خيطين متوازنين كانا دائما فى صعود مستمر .. دون أن يطغى أحدهما على الآخر .. فشكل مايمكن أن نسميه وحدة الشكل والمضمون فى تكاملية قصة ناضجة ومتميزة .. والقاص مستوعب جدا لأبعاد مايشتغل عليه .. وواع لمراميه وأهدافه .. ساع إلى بجد إلى قصة تنهض على المفارقة والإثارة والإدهاش ....