مريض بمستشفى العباسية للصحة النفسية يتهم عاملاً بممارسة الشذوذ معه فى غرفته والنيابة تتولى التحقيق، أخ لأحد المرضى يتهم مستشفى العباسية بتعذيب أخيه المحجوز بها ومحاولة دفنه والإتجار بأعضائه، مريضتان تقدمان شكوى عن طريق الأهل ضد ممرضتين بمستشفى العباسية للصحة النفسية بتهمة التحرش وإجبارهما على خلع ملابسهما والمعاملة السيئة .. الخ. تهم تكاد تصبح “أكلشيهات” لمجرد اقترانها بمستشفى العباسية للصحة النفسية، وبمجرد اقترانها بالمكان المجهول المخيف لدى الكثيرين و الذى يعبر الكثيرون من أمامه مهرولين والذى لا يعرف البعض الآخر بوجوده فى ذلك المكان فى قلب القاهرة، أقول إنه لمجرد أن ثمة مريضاً نفسياً أو مرضاً نفسياً فإن وصمة العار جاهزة ولمجرد الاتهام، يبقى هنا السؤال المهم: هل كل فرقعة إعلامية تعد خبرا أكيدا غير قابل للجدل أو النقاش؟ وهل تصبح من المسلمات والحقائق الواقعة؟ مما يشوه العمل المهنى بدون حتى إثبات تحقيقات النيابة أى تهمة وأحيانا قبل البدء حتى فى التحقيق. بعد هذه التقديمة السريعة نتساءل: ما الذى حدث فى قضية اليوم؟ الإجابة ببساطة أنه قد تداولت الأخبار وتناثرت هنا وهناك بأن عاملا بالمستشفى – مستشفى الصحة النفسية بالعباسية- قد مارس الشذوذ مع احد المرضى طبقا لأقوال هذا المريض، وبالطبع فقد تولت النيابة التحقيق فى البلاغ، حسنا .. للنيابة الحق طبقا للقانون فى التحقيق فى أى بلاغ مقدم من مواطن ولحين ظهور النتيجة فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته، لكن تبقى للطب كلمة هنا ربما تكون الفيصل فى حكم القضاء نفسه وهو أن المريض العقلى صاحب الاتهام يعانى مما يسمى بأفكار ضلالية أى غير حقيقية وهذه الأنواع من الأفكار تخلط الحقائق بالمزيف بشكل يصعب التمييز بينهما، وأيضا تفقد الصلة بالواقع بدرجات مختلفة و كثيرا ما تتعلق هذه الضلالات بأمور جنسية غير سوية فى الغالب، إذن فنحن أمام ادعاء ينتظر الحكم مع خلفية طبية توضح الصورة تثبتها أو تنفيها .. فقط نحن فى انتظار النتيجة، نتيجة التحقيق لكى يصبح المتهم – بفتح الهاء - مداناً أو بريئاً .. ويصبح المتهم – بكسر الهاء - مداناً أو مريضاً، الأمر يحتاج لبعض التروى للحسم، فالمريض النفسى بالفعل فى مجتمعاتنا الشرقية يعانى من وصمة مخيفة لمجرد كونه مريضا نفسيا فيصير موصوما ابد الدهر، رغم تطور وسائل العلاج المذهلة فى السنوات الأخيرة وتقنياته أيضا إلا أن الوصمة لا تزال قائمة .. فالأمر ببساطة يحتاج وقفة فالمرض النفسى تحديدا وتقبل المجتمع له و للمصابين به رهن لمدى تقدم ورقى هذا المجتمع. لكى نعرف رحلة تطور الطب النفسى دعونا نسرد جانبا من تاريخه، ففى العصر الإسلامى نجد أن أول بيمارستان– لفظ فارسى يعنى بيت المريض أو مكان الاستشفاء – أنشئ بدمشق عام 93 هجرية وما تلاه من بيمارستانات فى ربوع العالم الإسلامى كبيمارستان بغداد عام 151 هجرية وأيضا البيمارستان الأعظم فى تاريخ الإسلام وهو بيمارستان قلاوون بمصر فى القرن الرابع الهجرى اهتمت جميعا بالمرض النفسى ونجد ان الأخير – أى بيمارستان قلاوون – قد ضم أربعة أقسام: الباطنى والجراحة والعيون والنفسى، وكان من شروط علاج المريض النفسى بالبيمارستانات الإسلامية أن يعالج المرضى مع بعضهم البعض وكان الأطباء العرب يبررون ذلك بأنه جزء من العلاج أن يختلط المرضى النفسيون بالناس وان يعاملوا معاملة جيدة مما يسهم فى رفع معنوياتهم وتقبلهم للعلاج وكانوا يمارسون أنشطة رياضية واجتماعية وهو ما عرفه الطب الحديث بعد ذلك بقرون عدة فيما يسمى بالعلاج التأهيلى وهو موازٍ تماما للعلاج الدوائى فى حين كانت أوروبا تغط فى سبات عميق وفى غياهب الجهل معتبرين أن المرضى هؤلاء ممسوسين أو تداخلهم أرواح شريرة ولنا أن نقف لنتأمل أين نحن من الجانبين، الجانب المشرق لماضينا وحاضر الغرب والجانب المظلم من ماض الغرب .. ولا أريد أن أقول وحاضرنا للأسف . لكن الأمر ليس بهذا السوء المطلق وإنما هناك بصيص أمل وهو محاولات تجرى لحفظ حقوق المريض النفسى داخل المستشفيات وحملات لحفظ تلك الحقوق بالتوعية خارجها، اعرض بعض الفقرات من مواد القانون قانون الصحة النفسية كدلالة على المحاولات الدءوبة على الحفاظ على حقوق المريض النفسى والذى صدر فى نوفمبر من العام 2008، هذه هى بعض المبادئ التى أرسى على أساسها القانون، ففى المادة أربعين الخاصة بحقوق المرضى نجد النص التالى: مادة (40) : يتمتع المريض النفسى الذى يُعالج بإحدى المؤسسات المنصوص عليها فى المادة ( 1 ) بالحقوق الآتية:- أولا: تلقى العناية الواجبة فى بيئة آمنة ونظيفة، ثانيا: حظر تقييد حريته على خلاف أحكام القانون، ثالثا: الإحاطة علماً باسم ووظيفة كل أفراد الفريق العلاجى الذى يرعاه بالمستشفي، رابعا: رفض مناظرته أو علاجه بمعرفة أيٍ من أفراد الفريق العلاجي، خامسا: تلقى المعلومات الكاملة عن التشخيص الذى أُعطى لحالته وعن الخطة العلاجية المقترحة وعن احتمال تطورات حالته، سادسا: أن يكون العلاج المُقدم له طبقاً للمعايير الطبية المرعية والمُعترف بها فى الأوساط العلمية، سابعا: رفض الخضوع للبحوث العلمية على أن يحظى فى حالة الموافقة بشرح كامل لهدف التجربة وذلك بمراعاة حظر إجراء البحوث على المرضى الخاضعين لقرارات الإدخال والعلاج اللاإرادي، ثامنا: حماية سرية المعلومات التى تتعلق به وبملفه الطبى وكذلك خصوصياته ومتعلقاته الشخصية ومكان إقامته بالمستشفي، تاسعا: الإطلاع على صورة ملفه الطبى وأن يحصل على نسخة كاملة منه طبقاً لما تحدده اللائحة التنفيذية لهذا القانون ما لم يكن خاضعاً لنظام الإدخال أو العلاج اللا إرادى وفى هذه الحالة يجوز للمريض طلب ذلك من المجلس المحلى للصحة النفسية، عاشرا: التظلم من أى إجراء وفقاً للقواعد والإجراءات التى تحددها اللائحة التنفيذية، الحادى عشر: مقابلة زائريه أو رفض مقابلتهم ما لم تتعارض المقابلة مع الخطة العلاجية. وأن يُمَكّن من مقابلة محاميه، الثانى عشر: الحصول على إجازات علاجية طبقاً للخطة العلاجية المُوضوعة له، الثالث عشر: طلب الخروج من المستشفى دون مصاحبة أحد من ذويه متى انتهت فترة إدخاله لا إرادياً، الرابع عشر: الحماية من الاستغلال الاقتصادى والجنسى ومن الإيذاء الجسدى وغير الجسدى والمعاملة المُهينة، الخامس عشر: حرية الحصول على خدمات البريد والهاتف والإنترنت حال توافرها بالمستشفي، كما تشدد المبادئ المؤسسة للقانون الجديد للصحة النفسية على معيار مهم وهو الرعاية المجتمعية والتى تساعد على إزالة الوصمة الخاصة بالمرض النفسى، فنجد تلك المبادئ تذكر أنه أولا: لكل مريض الحق فى أن يعالج وان يعتنى به قدر الإمكان فى المجتمع المحلى الذى يعيش فيه، ثانيا: أن يجرى العلاج فى مستشفى للصحة النفسية يكون من حق المريض أن يعالج فيه بالقرب من منزله أو من منزل أقربائه أو أصدقائه متى أمكن ذلك وان يعود إلى مجتمعه المحلى فى اقرب وقت ممكن، ثالثا: إنه لكل مريض الحق فى علاج يناسب خلفيته الثقافية .. كانت تلك لمحة تاريخية عن الطب النفسى لعلها تكشف بعضا مما غاب عن العقول. د/ على الشامى