لأستاذة التاريخ هدي السعدي أبحاث كثيرة حول تاريخ تطور الطب النفسي في مصر، والانتقال من بيمارستان قلاوون إلي مستشفي العباسية والخانكة، الذي لم يكن مجرد انتقال جغرافي، وإنما كان مصحوباً بتغير منظومة كاملة من الأفكار حول المرض النفسي، بالإضافة إلي هذا، فهدي السعدي متخصصة في تاريخ المرأة بالعصور الوسطي، وهو ما يضفي علي أبحاثها نبرة نسوية نحتاجها في مجتمع يدفع بالمرأة نحو التهميش يوماً بعد الآخر. عن تاريخ مستشفي العباسية وقلاوون والمرضي العقليين في مصر كان لنا معها هذا الحوار: لنبدأ من تحليل مفهوم الجنون، لدينا في المجتمعات الشرقية وفي الغرب. هما مفهومان مختلفان. الغرب في العصور الوسطي كان ينظر للجنون بوصفه مساً من الشيطان أو غضباً من الله، أما المجنون فكان يُنظر له بوصفه شخصاً لا أمل في علاجه ويجب عزله عن المجتمع. المجتمعات الشرقية في المقابل كانت تنظر للمجنون بوصفه شخصاً مباركاً يتلقي وحياً من الله، هذا عن النظرة الشعبية، أما نظرة الشريعة فكانت قائمة علي الآية الخامسة من سورة النساء، والتي تقول: "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً". أي أنه صحيح أن المجنون لا يرث ويتم تعيين وصي عليه، ولكن الآية تدل علي ضرورة قبول المجتمع للمجنون. لا يتم إقصاؤه ولا هو خطر علي المجتمع، فهناك دائماً أمل في علاجه. وكيف أثر هذا التوجه علي بناء المستشفيات؟ بناء علي هذه النظرة تم الاهتمام ببناء المستشفيات التي تعالج الأمراض العقلية. هناك مثلاً كتابات كثيرة لابن سينا يقسم المرض العقلي فيها لأقسام مختلفة. أول مستشفي للأمراض العقلية في العالم الإسلامي أقيمت في العراق، وتلتها مستشفي بناها ابن طولون، في قلب عاصمة القاهرة، وقتها بدأ استعمال كلمة "أقام" للدلالة علي فترة العلاج. أي أن اللغة لم تحو دلالات علي إقصاء المريض عقلياً أو نبذه عن المجتمع. أما أكبر مستشفي فلقد أقامها السلطان المملوكي قلاوون بمصر، يقال إنه مرض بسوريا وعولج بالمستشفي النوري، التي بناها نور الدين زنكي، وهناك نذر إن تم شفاؤه أن يبني مستشفي خيرياً كبيرا في القاهرة. وحدث هذا، وتم بناء بيمارستان قلاوون بشارع المعز، أي في قلب القاهرة القديمة. المستشفي أقامها السلطان بطريقة الوقف، تم تخصيص ريع أرض يملكها لكي تصرف علي بناء المستشفي وصيانتها ورواتب العاملين فيها. وتولي الوقف كالعادة رجال الدين.وقتها عولج المرضي بالمجان وقيل إن المريض الذي يصاب بالأرق ليلاً يتم جلب فرقة موسيقية له لكي تبعد عنه الأرق، وعندما يغادر المريض المستشفي يتم منحه مبلغاً من المال يعاونه علي قضاء فترة نقاهة بالبيت قبل عودته لمزاولة عمله. مستشفي قلاوون كانت تحوي قسما أكاديمياً أيضا، لإنتاج الأبحاث والتدريس، كما احتوت علي قسم كبير للمرضي العقليين. ومن الطريف أن كلمة "بيمارستان" (أي مكان المريض بالفارسية)، قد ارتبطت من الآن فصاعداً بالمكان الذي يعالج المرضي العقليين، بعد تحويرها إلي "مورستان"، وذلك لتزايد الاهتمام بمعالجة المرض العقلي. في هذه الفترة حاولت المجتمعات الإسلامية دائما دمج المريض العقلي بالمجتمع ، بعكس النظرة التي كانت شائعة في الغرب. وماذا عن الطب النفسي الحديث بمصر، هل واصل هذه النظرة للجنون؟ بني محمد علي مستشفي خاصة بالأمراض العقلية في الأزبكية، أي في قلب القاهرة أيضاً، مما يعد استمراراً لنفس النظرة القديمة. كما حول مخزناً كبيراً في بولاق عام 1850 إلي مستشفي للأمراض العقلية أيضاً. حتي هذه اللحظة لم تكن فكرة عزل المريض قد ظهرت. بدأت الفكرة في الظهور مع زيادة النفوذ البريطاني. زار وفد من الأطباء الإنجليز مستشفي الأزبكية وقالوا إنها لا تصلح للعلاج ولا تساير المعايير العالمية، وإنه لابد من تدخل الحكومة البريطانية لبناء مستشفي جديدة. أغلقت المستشفيات القديمة وتم بناء مستشفي جديدة في العباسية عام 1880. المستشفي أقيمت مكان قصر الوالي عباس، الذي أصبح فيما بعد الخديو عباس الأول، في مكان متطرف جداً وبعيد عن قاهرة القرن التاسع عشر. وبعد الاحتلال البريطاني دخلت المستشفي تحت إدارة أطباء إنجليز، وأصبحت هي المركز الذي تخرج منه كل النظريات الخاصة بالمرض العقلي. في البدء كان الأطباء هناك "إنجليز"، ولكن الجيل الثاني احتوي علي أطباء مصريين درسوا بالخارج وتأثروا بالنظريات الغربية حول المرض النفسي، ومنهم دكتور نجاتي وغيره، الذين ساعدوا علي نشر النظرة الغربية للجنون. ما يلفت نظري في موقع المستشفي هو كونها في أطراف القاهرة، وأنه يفصل بينها وبين المناطق المأهولة قشلاق للجيش البريطاني بالإضافة إلي مدرسة بوليس. وهو ما صعب علي الناس زيارته. الجيش والبوليس كانا يحجزان بين المريض وأهله. هذا هو الأساس الأول لفكرة عزل الجنون، وهو جوهر فكرة الحداثة: احتياج المجتمع للأشخاص الأصحاء وتخليه عمن لن يساهم بشكل مباشر في بنائه. عومل المجنون مثل مريض الجذام، وهو ما سرب وقتها فكرة أن الجنون مرض معد. مستشفي أخري للمجانين تم بناؤها عام 1917 في الخانكة بالقليوبية. نفس الفكرة تحكمت هنا. لقد تم اختيار منطقة بعيدة جدا عن العمران في القليوبية، كما فصلها عن العمران منطقة صحراوية يقطنها العرب العبابدة، بالإضافة إلي خط سكة حديد يفصل بين المحافظة والمستشفي. أعتقد أن نفس المفهوم يتحكم فينا الآن، عندما تم التفكير في إبعاد المستشفي إلي مدينة بدر، وهذا بدلا من تطوير أداء مستشفي العباسية وتوفير المزيد من النفقات لها. إبعاد المجانين عن المجتمع "الصحي" وعدم التمكين من دمجهم بالمجتمع، وعدم إتاحة الفرصة لأهلهم، وهم من الطبقات الشعبية، من زيارتهم، كل هذا يؤدي في نهاية الأمر إلي تفاقم مرض المريض العقلي، بسبب بعده عن المجتمع وعن أهله وعدم اختلاطه إلا بالمرضي العقليين. وماذا عن معمار مستشفي العباسية من الداخل، هل كانت هناك فلسفة خاصة في تقسيم عنابرها ومعمارها؟ المصادر تخبرنا أنه تم تقسيم المستشفي لعنابر خاصة بالرجال وعنابر أخري خاصة بالنساء، مع التمييز في المعاملة بين كل منهما. فالرجال دائما يحصلون علي العنابر الأفضل والأكبر وذات التهوية الأكبر، كما يحصلون علي الأسرة والأجهزة الأحدث. نجاتي يذكر هذا بوضوح في تقاريره التي كان يرفعها للإدارة. وبرغم أن الأطباء في هذه المرحلة كانوا نتاجا غربيا صرفاً، إلا أننا لا نعدم لديهم الميل لتبرير نظرياتهم استنادا إلي الشريعة، فتجد أحدهم يقتبس مثلاً آية "حملته أمه وهناً علي وهن" ليبرر بها قابلية النساء للمرض العقلي بنسبة أكبر من الرجال. قيل إن المرأة دائما معرضة للجنون، إن أفلتت منه في فترات الحيض فلن تفلت منه في الولادة، وإن أفلتت في الاثنين فلن تفلت منه في سن اليأس. هذا لم يكن يحدث في مستشفي قلاوون؟ مستشفي قلاوون أيضاً كانت تحوي عنابر خاصة بالرجال وأخري بالنساء، ولكننا لا نجد فيها أي أثر للتمييز بين الاثنين. كما احتوت علي أطباء وطبيبات، غير أن اللافت أن النساء العاملات بمستشفي العباسية، في المقابل، لم يكن مسموحا لهن إلا بالعمل كممرضات، لا كطبيبات. اللورد كرومر له مقولة شهيرة يقول فيها: "من يحتاج الطبيبات؟! نحن لا نريد سوي الممرضات". يمكن تفسير هذا رجوعاً إلي مستشفي الخانكة، التي كانت مستشفي للمرضي الرجال فقط، ولم يعمل فيها سوي أطباء وممرضيين من الرجال. يدلنا هذا أن اختيار النساء للعمل بمستشفي العباسية لم يكن لكفاءتهن المهنية، وإنما لعدم قبول المريضة إلا بامرأة تعالجها. بالإضافة لهذا فهناك مشكلة أخري تدل علي التمييز بين الجنسين في مستشفي العباسية. يخبرنا نجاتي في تقاريره إن عدد المرضي عندما يكون كبيراً فهم يضطرون لتسريح النساء من المستشفي والإبقاء علي الرجال. وهذا في حد ذاته تحيز ضد المرأة. ولكنه يضيف أيضاً إن هذا خلق مشكلة أكبر، فالنساء اللائي يتم تسريحهن يخرجن إلي المجتمع ويتزوجن وينجبن، ويورثن أطفالهن مرضهن العقلي. يدلنا هذا علي نظرة الطب للمرض النفسي، بوصفه مرضاً وراثيا، ولكن يدلنا أيضا علي نظرته للمرأة. فدوماً ما قيل إن نسبة نقل المرأة للمرض النفسي لأطفالها هي أكبر بثلاثة أضعاف من مثيلتها لدي الرجل.