حين قامت النخب العربية بترجمة الديمقراطية الغربية لجعلها ديمقراطية شرقية عربية، قاموا بإفسادها وتسطيحها وتشويهها أيما تشويه، ولا يقتصر الأمر فحسب علي ترجمة النظم السياسية الغربية وإفسادها، بل والاقتصاد كذلك، والاجتماع كذلك، والثقافة كذلك، والفكر كذلك، وما أدراك ما الفكر، فمعظم الأفكار والتوجهات الفكرية التي تتبناها النخب العربية المترجمة هي في الأصل أفكار ونظريات فكرية غربية خالصة، ليس لنخبة منهم فضل يذكر أو جهد يذكر في إنتاجها أو إبداعها، بل لم يكن لهم من فعل يذكر سوي الترجمة المشوهة فحسب، وهذا يعني أن الفكر الغربي له خصوصياته النابعة من موروثه الثقافي والفكري الغربي الخاص، والذي يختلف تماما عن الموروث الثقافي والفكري العربي الخاص بالمنطقة العربية، فكثير من المثقفين العرب قد ملأوا رءوسهم وأفكارهم وانتماءاتهم وكتاباتهم بفكر غربي مترجم قد نبت في تربة غير التربة ومناخ غير المناخ، فلا يمكن عقلا ومنطقا أن ينمو هذا الفكر في أرض غير أرضه، وبيئة غير بيئته، ومناخ غير مناخه. فكثيرا ما يصطدم هؤلاء مع واقعهم العربي الشرقي حين يحاولون بشتي الطرق زرع هذه الأفكار في البيئة العربية الشرقية أو يلبسونها للواقع العربي رغما عنه، وذلك لأن هؤلاء المترجمين عجزوا عن ابتكار أي فكر مستنير خاص بهم وبثقافتهم وموروثهم الفكري، فكر فريد يميزهم عن الآخرين، وينطلق بهم نحو التقدم والحضارة، دون ترجمة أو نسخ لإبداعات ومنتجات الآخرين، فكر يضعون هم لبناته الأولي، كلماته الأولي، فقد حاول بعض المترجَمِين العرب إسقاط النظريات الفكرية الغربية لتجاوز الدين التي برر فيها الغرب انقلابه علي الديانة المسيحية الغربية علي الدين الإسلامي، ولم يأخذ في حسبانه الاختلافات العقائدية والتشريعية الجذرية والجوهرية بين الديانتين، ففي الديانة المسيحية الغربية في نسختها (الكاثوليكية) كانت هناك عقائد لا يمكن قبولها أو تصورها، ككون البابا هو المتحدث الأوحد باسم الله علي الأرض، حتي أن البابا (نقولا الأول) أصدر بيانا في العصور الوسطي قال فيه: (إن بن الله أنشأ الكنيسة بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها، وإن أساقفة روما ورثوا سلطات بطرس في تسلسل مستمر متصل، ولذلك فإن البابا ممثل الله علي ظهر الأرض يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم علي جميع المسيحيين حكاما كانوا أو محكومين) انتهي. (المصدر: قصة الحضارة، ول ديورانت، ج14 ص352 . وكذلك عصمة البابا في تقريره للعقائد الدينية التي سيعتنقها الناس، ولا يمكن لأحد أن يفكر مجرد تفكير في نقد قراراته الدينية العقيدية، وإلا اتهم بالزندقة والهرطقة والكفر ويكون مصيره إما الحرق بالنار أو الجلوس علي الخازوق، مروراً بمهزلة صكوك الغفران، والإقطاع الكنسي الذي كان يمارس علي الفلاحين وعامة الشعب باسم الله، فما كان أمام الشعوب الغربية من سبيل للهروب من هذا الجحيم المستعر إلا الثورة والانقلاب، ليس علي البابا ورجال الدين فحسب، بل علي الدين ذاته، ولا ننسي أن الثورة حين قامت في الغرب علي الكنيسة كان لها أرضية شاسعة من الشعب الذي كان هو المضطهد الأول من قبل رجال الدين، ولا يفوتنا أيضا أن الكنيسة كانت هي من تتبني السلطة السياسية بمعني أن الإمبراطور كان لا يعين إلا بموافقة ومباركة البابا. أما في العالم العربي والإسلامي فالأمر يختلف تماماً عما كان عليه الأمر في الغرب قبل عصر النهضة، ومهما كان من تشابهه بين الواقعين الإسلامي الشرقي والمسيحي الغربي، ومهما يكن من أمر فلا سبيل إلي التشبيه بين واقع العالم العربي اليوم وبين ذلك الواقع المظلم والمزري الذي كان عليه واقع العالم الغربي قبل الثورة الفرنسية، والبرهان علي ذلك أن الغالبية العظمي من الشعوب العربية والإسلامية الآن هي في صف الدين وليست ضده، دون إكراه من رجال دين أو غيرهم، بل إن الواقع العربي في غالبيته ضد العلمانية والإلحاد والثقافة الغربية، بل إن الجميع يوقن أنه لولا جيوش الأنظمة العربية الحاكمة المستبدة وقمعها للشعوب العربية لأقامت كل الشعوب العربية والإسلامية أنظمة دينية إسلامية بمحض إرادتها، وهنا تكمن المفارقة، ومن هنا ينبغي علي الباحث إدراك هذه الحقائق وهذه المفارقات بين الشعوب الإسلامية في الوقت الحاضر، وبين الشعوب الغربية في عصور الظلام الكنسي، وهذه المفارقة لها من الأسباب ما يبررها: الأول: الدين الإسلامي ليس في عقيدته الأم تلك العقائد المؤلهة والعاصمة لرجال الدين كما هو الحال في الديانة المسيحية في نسختها الكاثوليكية الغربية. الثاني: السلطة الدينية في العالم الإسلامي خاضعة بشكل كامل للسلطة السياسية علي عكس ما كان في العصر الكنسي الغربي. الثالث: لا يوجد في العالم الإسلامي ما يسمي بصكوك الغفران، ولا يوجد عداء للدين الإسلامي ولا لرجاله من القاعدة العريضة من الشعب بل العكس هو الصحيح. ومع ذلك يصر البعض علي إسقاط واقع العصور الوسطي في الغرب علي الواقع الحالي في العالم العربي والإسلامي لإثارة المخاوف دون مبرر، فالتخوف من نظم الحكم الإسلامية غير مبرر، لأنه منذ متي وصلت سلطة دينية إسلامية إلي سدة الحكم في العالم العربي في القرن المنصرم حتي تحدث كل هذه المخاوف؟، ألم تكن أنظمة الحكم كلها في العالم العربي إما أنظمة غربية مترجمة مشوهة مسخ، أو أنظمة قبلية بدوية؟. (البقية تأتي)