مقالات عديدة و حلقات إعلامية نقاشية تناولت "أخلاقيات" الثورة، والسلوك الجديد علي المصريين، الذي كان قد لقي إشادة عالمية بتحضر الشعب الذي نظف الميدان بعد ثورته، لذا كان لابد من وقفة وطرح تساؤل: هل بالفعل استطاعت الثورة أن تؤثر في أخلاقيات وسلوكيات ووعي الشعب المصري علي المدي القريب والبعيد، أم أنها فقط حققت وتعمل علي تحقيق إنجاز سياسي؟... وفي حالة أن منجزها سياسي بحت، هل من الممكن الانتقال بها للأخلاقي؟ وأخيرا ما مدي إمكانية استثمار ثورة "25 يناير" لتحقيق بعد أخلاقي وسلوكي؟، حملنا هذه الأسئلة وطرحناها علي عدد من المثقفين فقالوا: قال الباحث الاجتماعي السيد يس: لا يجب انتظار تعميم سلوكيات ميدان التحرير في المجتمع كله، لأنه موقف خاص، مجتمع تم تخليقه في الميدان، لم يكن هناك فتنة طائفية، وسادت حالة من التكافل الاجتماعي، لكن لا يمكن تعميمه أو القياس عليه في السلوك العام للشعب، فتعديل السلوك والقيم يأخذ وقتا طويلا، فمن الممكن أن يكون متغيرا كنتيجة للحظة الثورية، فالثورة سياسية في المقام الأول، ومطالبها سياسية بحتة، لكنها تحولت إلي اقتصادية فيما بعد نتيجة التحام الشعب، إلي أن وصلت إلي مطالب فئوية الآن. ومن جانبه قال الدكتور أنور مغيث أستاذ الفلسفة بآداب حلوان: "بالتأكيد أثرت الثورة في الأخلاقيات، ولكن ذلك يحتاج إلي وقت لتغيير العقليات، فلا يكفي الشعور بحب الآخرين في لحظة استثنائية، فالأنانية والضغينة كانت موجودة بشكل كبير، لكن مشاعر التضامن والطهارة والأخلاق تستمر لابد من أن تتغير العقلية، بمعني أن يكون السلوك نابعا من "ضميره" وليس من نابع ديني مثلا أو ما شابه فتكون أخلاقا زائفة، مثلا الموظفين في أوروبا من المستحيل أن يقبل الرشوة من وازع ضميره، ومن المهم استغلال الثورة في تعميق هذه السلوكيات من خلال ثلاثة محاور، فهي ثورة كرامة وحرية يريد المصريون بها تحسين صورتهم السلبية أمام أنفسهم، وذلك يتطلب أجهزة رقابية بكل مكان وأن يكون هناك تقدير للجهد الحقيقي علي كل المستويات في التعليم والإعلام، كذلك تكريس مجموعة من القيم تهمش مبادئ الفهلوة والندالة في مقابل مبادئ الإخلاص والأمانة. نتيجة الحالة الثورية تولد لدي البعض الشعور بعدم الرقابة والمتابعة وهي ظواهر غير مقلقة، لكن ينبغي أن يكون هناك أمن وبوليس لحفظ الأمن والأمان. أما الدكتورة زينب شاهين أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة فتقول: "علي المستوي القيمي الذي ترجم إلي سلوك كالإخاء والمحبة والتكافل، لها مردود سريع علي المواطنين، وذلك لأن الشعب شعر أنه حر، وأن تكافلهم حقق تغييرا، وأري الثورة ستنعكس علي المدي البعيد بعد تحقيق مطالب الثورة، نظرا لأننا مازلنا في فورة ونشوة الثورة، لكن هناك شواهد تؤكد هذا التغير، فمثلا أثناء زحام السيارات أصبح هناك هدوء في ردود أفعال السائقين، كذلك في البنوك أصبحت السلوك وردود الأفعال تجاه الزحام أكثر توازنا، فالشعب "ارتاح" الآن وخلا من العصبية والعنف وأصبح أكثر تقدما وسماحة، بالتالي أصبح هناك نوع من الاسترخاء والاتزان النفسي". وفي ربط بين ما حدث في ميدان التحرير بالثقافة الشعبية وتراث الجماعة يقول الدكتور صلاح الراوي أستاذ الأدب الشعبي: "فلنرتب الأمر علي هذا النحو، أولا الشعوب لا تتغير مواقفها القيمية بشكل فجائي سريع نتيجة أحداث، مهما بلغت ضخامة هذه الأحداث كالزلزال مثلا.. فنجد تغيرًا سلوكيا نتيجة رعب وخوف، إضافة إلي التعاطف فيما بين المتضررين، هناك لدي أي شعب من الشعوب مجموعة من الثوابت القيمية تتشكل عبر مئات السنين، فلنأخذ علي سبيل المثال قيمة " الصبر" عند الشعب، الذي اتهمته بسببها النخبة (اللزجة المراوحة دائما) بالتخلف والبطء، ثم فاجأهم الشعب المصري بأمر مختلف، بحيث أن هذه النخبة لم تكن صبورة إنما سريعة جدا في البيع والالتحاق بالنظام ودخول الحظيرة، ما نريد أن نصل إليه أن القيمة الحقيقية لدي الشعب المصري هي أنه قادر دائما علي المراكمة والامتصاص، واستيعاب ما يواجهه في الواقع، دون أن يهرب هربا حقيقيا للخرافة التي تنسب إليه، أو للتدين الذي يمكن أن تجره إليه منظمات ومؤسسات، ودون أن يدخل في أخطر ما يتعرض له الكائن الإنساني وهو "الاغتراب". وأكمل: ومن خلال هذه القيم الثابتة ثبات الجوهر لا الأعراض، يعيش أي شعب من الشعوب ومنه المصري تجربة حياته الوجودية بالكامل، هناك مؤشر ينبغي التوقف عنده وهو بعد الخطاب الثاني للرئيس السابق حدث نوع من الهزة، حيث تأثرت الجماعة الشعبية بعض الشيء، وأصيب الثوار بالفزع الحقيقي من هذا التحول، الذي كنت متيقنا أنها لن تستغرق أكثر من ثلاثة أو أربعة أيام علي الأكثر، وأنني كنت سعيدا بهذه الاهتزازة الطارئة، برغم فداحة الظروف وقتها، لأننا نحب دائما أن نكون أبناء شعب علي هذه الدرجة من الحساسية، ومن أجل هذا فإن الثورة الشعبية التي فجرها وقادها الشباب لا يمكن أن تجري في ذاتها تحولا سريعا في القيم لدي الجماعة الشعبية بالشكل الذي نشير إليه ببساطة ونقول (إمسك شعب تغيرت قيمه). وأردف: لكن نستطيع أن نقول إن الزخم الثوري الذي حدث رفع عن الجماعة غطاء مفتعلا استمر لعدة عقود، استخدمته الجماعة كصدفة واقية ما يمكن أن أسميه الحالة القنفذية، إن الشوك الذي في القنفذ ليس داخل جوفه، إنما سلاح دفاعي، وجه من خلاله رسالة للنظام مفادها: "أيها النظام أنت لم تجعل الوطن لي، ولم تكن أنت المعبر عني والخادم لأهدافي العليا، إذن أنا لست مؤمنا بك وسأمارس في مواجهتك لعبة القط والفأر(يا أنا يا إنت)". وأكمل: لاشك أن الثورة تؤدي إلي تغير سياسي لدي الشعب في الدرجة بالأساس وفي النوع بمستوي أقل، لأن هذا يحتاج إلي عمل حزبي منظم (بعد إلقاء جميع الأحزاب الموجودة حاليا في الساحة بلا استثناء إلي أقرب سلة زبالة تاريخية)، فلابد أن يكون هناك تغير في برامج التعليم بل في فلسفته بالأساس، بداية من المرحلة الإلزامية، ايضا الإعلام لابد أن يكون في استقلال مطلق نشارك جميعا في صياغة فلسفته العامة، هناك أمر آخر ثوري أبعد حتي من حدود الدستور الذي يمكن تغييره كاملا خلال أسبوعين، أما صعوبة تغييره فهي أكذوبة 100%، فالمواد المطلوب تغييرها لا تتجاوز العشرين مادة علي الأكثر، فالأمر الثوري الذي أعنيه هو مايتصل بالنظام الاقتصادي للبلاد ونلاحظ أن جميع الذين تحدثوا عن الثورة والتعديلات الدستورية تحاشوا ما يتصل بالنظام الاقتصادي لمصر، المادة (4) من الدستورالحالي مضحكة حيث يقوم الاقتصاد علي تنمية النشاط الاقتصادي، فبالنسبة لي أي دستور لاينص علي النظام الاشتراكي أنا لست معه، مع ملاحظة أن المسألة ليست مجرد نص في الدستور إنما استراتيجية مجتمع بأسره واقعيا، هذا هو التحول الحقيقي الذي تجريه أي ثورة حقيقية". ورأي الدكتور محمد سكران أستاذ أصول التربية بجامعة الفيوم ورئيس رابطة التربية الحديثة إنه من تزييف الوعي القول بأن الثورة المصرية الشعبية قد استطاعت أن تغير السلوك أو الثقافة السائدة، لأن هذه الثقافة كامنة في الوجدان ومتوارثة، وبالتالي يصعب القول إن هذه الثورة قد أدت إلي تغيير في السلوك، لأن هذا السلوك هو حصيلة تربية متوارثة وثقافة سائدة، أما ما ظهر من سلوكيات معينة قام بها شباب الثورة كعمليات النظافة وتنظيم المرور وغيرها، التي لا يمكن إنكارها، لم تكن تصرفا عامًا مارسه الشعب كله، وإنما لشريحة عمرية معينة بدليل ما نعانيه الآن في الشارع المصري من سلوكيات عدوانية، ومن انفلات وصل إلي حد الفوضي، وهذا يعني ببساطة شديدة أنه لا يمكن تعديل السلوكيات أو الثقافة بين يوم وليلة، وإن كان ما قام به هذا الشباب يمكن توظيفه والإفادة منه كمنطلق أساسي لتغيير الثقافة والسلوكيات السائدة. وأضاف: نري أيضا أنه ينبغي أن تكون هذه الثورة نقطة انطلاق لإحداث تغيير جذري في المفاهيم والسلوكيات، بل وفي كل الميادين والمجالات، وهنا يأتي دور الثقافة والإعلام والتربية، وفي القلب منها المؤسسات التعليمية، لأن القضية أخطر مما نتصور، وفي النهاية نأمل أن تؤتي الثورة ثمارها، ولا تتحول إلي فوضي وتصفية حسابات وركوب الموجة من قبل كل التيارات و«القادمين من بعيد».