مع مرور الأيام وتعاقب الأزمان يظل التاريخ يحمل لمصر فكرها ولفقهها الوسطى الذى أنارت به الدنيا فكانت مهدا للوسطية من خلال فقهائها الذين حملوا صحيح الدين ونشروا وسطيته حتى أصبحت مصر مهدا لتلك الوسطية ورغم المحاولات التى تتم من قبل جماعات وتيارات لتشويه الفكر الدينى المصرى إلا أن جميعها تبوء بالفشل بفضل فقهاء الوسطية المصريين الذين جعلوا من بلدهم أبية على التشدد والتطرف. لقد جمع محمد عبده فى وسائل تجديده للفكر الإسلامى بين الوسائل العصرية والتقليدية وإلى جانب رغبة الأستاذ الإمام فى إصلاح الأزهر فقد عمل من أجل إصلاح المؤسسات الدينية الأخرى ذات الأثر الفعال فى توجيه الحياة الاجتماعية وكان الأنجليز يحاولون إظهار أنهم يحترمون الدين ولا يتدخلون فى شئونه ومؤسساته فتركوا للخديو التصرف فى الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية فحاول الإمام أن يقنع الخديو بإصلاح هذه المؤسسات فإنه لا يؤمن تدخل الإنجليز فيها إذا طال العهد وساعدت الفرصة. الأوقاف: لقد لاحظ الأستاذ الإمام أن ريع أراضى الأوقاف يدر دخلا كبيرا مع أن حالة المساجد فى غاية السوء فلا يصرف لموظفيها ما يكفيهم شيئا إذ كان راتب الإمام مائة قرش وقد تكون خمسين قرشا فقط مما جعل العلماء ينصرفون عن هذا العمل فكان أئمة المساجد ومؤذنوها من الخرافيين مما تدنى معه مستوى الإرشاد الدينى فى خطب الجمعة إلى الحض على التواكل فضلا عن إقامة صلاة الجماعة على وجه غير صحيح. وعندما عين الأستاذ الإمام مفتيا للديار المصرية كان من طبيعة عمله أن يكون عضوا بمجلس إدارة الأوقاف فوضع مشروعا لإصلاح المساجد جعل الإشراف على المساجد لإدارة تنشأ لهذا الغرض، تسمى «إدارة المساجد» تكون تابعة لمصلحة الأوقاف بحيث تتولى هذه الإدارة الإنفاق على المساجد من ريع الأوقاف فترفع مرتبات الأئمة والمؤذنين والملاحظين ويعين الأئمة من خريجى الأزهر وتخصص فى المساجد دروسا يقوم بها العلماء لإرشاد الناس إلى الدين الصحيح. وبعد معارضات وتأجيلات أقر مجلس الأوقاف مشروع الأستاذ الإمام فى شهر صفر 1322 «فبراير 1904» وبدأ فى تنفيده بالقاهرة ولكن الخديوى كان قد أعماه الحقد على الأستاذ الإمام فأمر بإيقاف تنفيذ المشروع بإيعاز من قاضى مصر وعرضه على مجلس الشورى وانتهى به الأمر إلى عرضه على اللورد كرومر، وشاء الله أن يمضى الإمام إلى رحاب ربه ولم ينفذ المشروع. الإفتاء: كذلك جدد الأستاذ الإمام الكثير فى منصب الإفتاء فبعد أن كان المفتون من قبله يقتصرون فى عملهم على الرد على الفتاوى الرسمية التى ترد من النظارات الحكومية ونظارة العدل على وجه الخصوص. وعندما تسلم عمله فى الإفتاء وجد أن المفتين الذين سبقوه تواتروا على كلمة واحدة يفتون بها على القضايا المحولة إليهم من نظارة العدل بخصوص الإعدام وهى إذا ثبت على هذا الرجل أنه قتل الآخر عامدا متعمدا بشرطه حكم بقتله وإلا فلا. لكنه ما أن عرضت عليه قضية مثل هذه حتى طلب ملف القاضية كاملا بوقائعها وحيثيات الحكم فيها فيه بخبرة القاضى ورؤية العالم المجتهد فكان يصل إلى الحكم الذى يراه فكان بذلك المفتى والقاضى جميعا. ولم يكن فى فتاواه يتقيد بمذهب الأحناف كما كان يفعل السابقون بل كان يفتى بما يراه من قواعد الشريعة. كذلك لم يكن يقتصر فى عمله على الاستفتاءات التى ترده من مصر وحدها بل عمم نطاق عمله فى سائر أنحاء العالم الإسلامى وكانت أشهر فتاوى الإمام. - فتوى لبعض السائلين فى الهند بجواز الاستعانة بغير المؤمنين لما فيه مصلحة المؤمنين. - الفتوى الترانسفالية لبعض أهل الترانسفال يجيز فيها لبس القبعة للمسلم ويجيز ذبائح أهل الكتاب وصلاة الشافعى خلف الحنفى. وبهذا الجهد الممتاز الذى طور به الإمام منصب الإفتاء انتفع الناس بالمفتى خير انتفاع. دوره فى القضاء: فقد عمل على إصلاح القضاء منذ تولى العمل فيه. فكان يجتهد فى تحرى العدل ولا يتقيد بظاهر نصوص القانون. وقد شكا بعض الناس الإمام إلى المستر «سكوت» لأنه خالف نص القانون فى بعض القضايا فلما سأله المستر «سكوت» عن حقيقة موقفه فيها. قال الإمام.. هل العدل وضع لأجل القانون؟ أم أن القانون وضع لأجل العدل؟ قال المستر «سكوت».. لا بل القانون وضع لأجل العدل. فشرح الإمام أحكام القضايا للمستر «سكوت» فاقتنع بها وأكد اجتهاده. - كما كان يهتم بالتربية فى القضاء وخاصة فى الجرائم الاجتماعية التى تتعلق بالفسق والتزوير والجرائم المالية كالربا والسرقة وكان يلقى المواعظ على المتهمين إذ كان يرى التربية أهم من العقاب فى الإصلاح. - كذلك كان يصلح بين الأسر ويهتم بهذا الإصلاح أكثر من اهتمامه بما يصدر من أحكام. وقد توجهت همته إلى إصلاح المحاكم الشرعية باعتبارها الفيصل فى أمور الأسرة وهى أساس المجتمع فقام بجولات كثيرة عندما كان مفتيا يفتش على هذه المحاكم فكشف فى تقرير كبير يتضمن ثلاثا وثمانية صحيفة وجود الفساد فى هذه المحاكم من ضعف القضاة وتمسكهم بعوائد يزعمونها من الشريعة وما هى منها وتدخل الوزارة فى شئون هذه المحاكم وصعوبة معاملة الناس مع الكتاب وطول الزمن على القضايا وخصوصا إن كانت مهمة وخفاء طرق المرافعات حتى على العارفين بأحكام الشريعة وضعف رواتب القضاة. ورأى العلاج فى ضرورة أن تصلح الدولة أماكن القضاة والكتبة وتوفر استقلالهم فى الرأى وتوسع عليهم فى النفقة وتعنى بتنفيذ أحكامهم وفى ضرورة أن يكون هؤلاء القضاة من المتعلمين فى الأزهر بعد إنشاء قسم القضاء وقسم آخر يتخرج منه الكتاب. ثم اقترح ثلاثة أمور أخري: 1- أن توسع اختصاصات المحاكم الشرعية. 2- ألا يقصر التعيين فى منصب القضاة على الأحناف فقط. 3- أن تؤلف لجنة لوضع كتاب فى أحكام المعاملات الشرعية ينطبق على مصالح الناس فى هذا العصر، ولا يكون هذا الكتاب وافيا بالغرض واقيا للمصالح إلا إذا أخذت الأحكام من جميع المذاهب الإسلامية المعتبرة ليكون اختلافهم رحمة للأمة. لكن كل هذه الأفكار والمشروعات تحطمت على صخرة الجمود والجهل وأماتها أن قال فريق من القضاة والشيوخ إن ذلك غير جائز شرعا فرأت الحكومة السكوت على المشروع خوفا من إثارة الفتنة. دوره فى الصحافة: أما فى مجال الصحافة فحسب الإمام أنه راد الصحافة العربية ونقلها نقلتها الرائعة من السجع المتكلف إلى الأسلوب الصحيح ومن كونها مجرد ناقلة أخبار إلى موجهة للمجتمع بانية للرأى العام. وقد أشرنا إلى جهده الرائع فى «الوقائع المصرية» حيث أحدث بها هذا الانقلاب فى الصحافة فجعل من هذه الجريدة منبرا لنقد الوزارات وألزم الوزارات بتقديم تقرير دورى بأعمالها ومشروعاتها لتعلنه الوقائع على الناس ليروا ما فى هذه الوزارة من عمل أو تكاسل كما كان لإنشائه القسم الأدبى فى هذه الجريدة خير أثر فى الارتقاء بالقلم والفكر والثقافة. وما أن انتقل جهده الصحفى إلى مجلة «العروة الوثقى» حتى أنشأ بها مجلة كانت أقوى صوت وألم سوط لظهر الاستعمار ولم تعرف فى تاريخ الشرق الحديث مجلة أكثر ذيوعا وشهرة وأكثر تأثيرا فى التاريخ الحديث من هذه المجلة وكانت كلها بأسلوب الأستاذ الإمام. ولتعويله على الصحافة فقد كان يتمنى كما أخبرنا السيد رشيد رضا أن يؤلف شركة تنشيء جريدة يومية يديرها مجلس إدارة، ويكتب فيها طائفة من الكتاب الأخصائيين يتخصصون فى الكتابة فى النواحى المتعددة اجتماعية وعلمية وأدبية واقتصادية وزراعية بحيث لا تتناول من السياسة إلا الأخبار الصادقة ذات العبرة والفائدة فى أهل البلاد وبحيث لا ينشر فيها إلا ما وافق عليه جميع أعضائها ولا تكون خصما لجريدة أخرى. دوره فى إقامة الجمعيات: وإلى جانب ما تقدم من الوسائل كان الشيخ محمد عبده يرى أن إقامة الجمعيات وسيلة تساعد على تحقيق الغرض من أقرب طريق لأن مجهود الفرد قد لا يكفى للغرض الكبير بقدر ما يكفى جهود أفراد متعددين. وأشهر الجمعيات التى أسسها الإمام هي: - جمعية العروة الوثقى أسسها فى باريس مع أستاذه جمال الدين الأفغانى. - جمعية إحياء الكتب العربية كان غرضه من تأسيسها إحياء التراث العربى. - الجمعية الخيرية الإسلامية وكان غرضها تربية الأيتام وغير القادرين على نفقات العلم ثم مساعدة كل ذى حاجة إلى المساعدة. ويبدو أن الأستاذ الإمام كان متأثرا فى تكوين الجمعيات بأستاذه جمال الدين الأفغانى وبالحضارة الغربية. قال فى معرض حث الأغنياء على المساهمة فى إقامة التعليم.. «أفلم يعتبروا بالجمعيات الأوروبية التى لم يكن أعضاؤها إلا الزارعين والصانعين والتجار كيف يبلغ إيراد الواحدة منها ثلاثين مليونا من الجنيهات وبعضها أكثر وبعضها أقل وجميع ذلك يصرف فى بث المعارف والعلوم واتساع دائرة المصانع والفنون وتقوية روح التربية الحقة التى لا شأن للبلاد إلا إذا تحلى أبناؤها بحلالها». تلك إذن أدوار محمد عبده فى إصلاح المؤسسات ووسائله فهل نجح فيما أراد؟ وما أثر ذلك فى الفكر الإسلامي؟