اختلط الحابل بالنابل في ساحة الفتوي, وكثر المفتون في الفضائيات ووسائل الإعلام. ولم تعد البرامج الدينية والتوك شو وقفا علي الحديث في أمور السياسة والعبادات والأخلاق. فتجلت ظاهرة الفتاوي العشوائية. وتصدي الكثير من أهل العلم ممن تتوافر فيهم شروط الفتوي-وغيرهم من الدخلاء إلي- للقضايا الكبري والفتاوي المصيرية التي يناط بيان الرأي الفقهي فيها بمجمع البحوث الإسلامية ودار الإفتاء والمجامع الفقهية المماثلة. هنا ظهرت الصراعات الحزبية والمذهبية التي تفرق الناس وتشرذمهم ولا تجمعهم. لم يقف الأمر عند ذلك فقد دأب الكثير من الفقهاء علي التقليب بين ثنايا كتب الفقه القديمة, واستخرجوا آراء فقهية شاذة أثارت البلبلة لدي الرأي العام والتي كان آخرها إباحة شرب المسكرات كما جاء في مذهب الأحناف, متذرعين بتتبع رخص المذاهب الفقهية الأربعة تيسيرا علي الناس. وجاء تحذير الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب, شيخ الأزهر, من واقع الفتوي وبيان خطرها في الدين, ليؤكد حاجتنا الماسة إلي ضبط فوضي الفتاوي التي تطلقها الفضائيات ووسائل الإعلام. ضوابط وآداب الفتوي أوضح شيخ الأزهر, أن علماء الأمة وضعوا للفتوي ضوابط وقواعد وآدابا, وأوجبوا علي المفتين مراعاتها عند القيام بالنظر في النوازل والمستجدات, رعاية لمقام الفتوي العالي من الشريعة, وإحاطة له بسياج الحماية من عبث الجهلة والأدعياء. وأن هناك فرقا كبيرا بين فقه التيسير في الشريعة, المبني علي اليسر ورفع الحرج, والمنضبط بضوابط المعقول والمنقول, وبين منهج المبالغة والغلو في التساهل والتيسير واتباع الرخص وشواذ الآراء فلا ينبغي للمفتي تحت ضغط الواقع أن يضحي بالثوابت والمسلمات, أو يتنازل عن الأصول والقطعيات بالتماس التخريجات والتأويلات التي لا تشهد لها أصول الشريعة ومقاصدها. كما أشار الطيب, إلي أن الرخص الشرعية الثابتة بالقرآن والسنة لا بأس بالعمل بها لقول النبي, صلي الله عليه وسلم, في الحديث الصحيح: إن الله يحب أن تؤتي رخصه كما يحب أن تؤتي عزائمه. ولكن فضيلته يؤكد أن تتبع رخص المذاهب واعتماد الفتاوي الشاذة منهج خاطئ, ولا يصح الترويج للأقوال الضعيفة, والشاذة, والمرجوحة, والمبثوثة في كتب التراث, وطرحها علي الجمهور, لأنه تنكب لمنهج أهل السنة والجماعة الذين أجمعوا علي ترك العمل بالأقوال الشاذة. وحول الفتوي المنسوبة للأحناف في مسألة المسكر, قال فضيلة شيخ الأزهر إن الفتوي في مذهب السادة الأحناف علي مر العصور هي اتفاق علماء الأمة وإجماعهم علي العمل بالحديث الصحيح: ما أسكر كثيره فقليله حرام, والقول الراجح عند السادة الحنفية موافق لجمهور الأمة, وقد تقرر, كما هو معلوم عند أهل العلم, في مذهب السادة الحنفية أن اتباع المرجوح لا يجوز في الفتوي أو القضاء أو العمل. توحيد جهة الفتوي وإذا كانت دار الإفتاء هي المنوط بها بيان الحكم الشرعي,في كل ما يستجد في حياة الناس, فان الدكتور إبراهيم نجم, مستشار مفتي الجمهورية, يؤكد أن دار الإفتاء منذ إنشائها وهي تعني بإصدار الأحكام والفتاوي الشرعية بمنهجية علمية منضبطة, تراعي الواقع والمصالح والمآلات والمقاصد الشرعية. وحول إشكالية فوضي الفتاوي وسبل علاجها, يري أن فوضي الفتاوي تحدث عندما يتصدر غير المتخصصين لإصدار الفتاوي. وشدد مستشار مفتي الجمهورية علي أن هناك ضرورة ملحة الآن لتوحيد جهة الفتوي حتي يتم القضاء علي من يتاجرون بالفتاوي ويفتون بكل ما يحلو لهم في الفضائيات, مؤكدا أن الأزهر الشريف هو المرجعية الرئيسية للشأن الإسلامي في مصر. وطالب بوضع ميثاق شرف للفتوي لمواجهة فوضي الفتاوي, والتي تصدر من غير المتخصصين في مجال الإفتاء وتشوه صورة الإسلام والمسلمين في العالم. كما طالب وسائل الإعلام بأن تتحمل مسئوليتها الأخلاقية للحد من ظاهرة فوضي الفتاوي, مبديا استعداد الدار للتعاون مع جميع وسائل الإعلام لتحقيق هذا الأمر. كما أعلن عن إستراتيجية جديدة لدار الإفتاء في الفترة المقبلة للحد من العشوائية في إصدار الفتاوي, وأن تكون أكثر قربا من هموم المواطن العادي في الفترة المقبلة. التزام منهج الوسطية وإذا كانت المؤسسات الدينية تحذر من الانسياق وراء الآراء الشاذة والغريبة التي حفلت بها كتب التراث والفقه الإسلامي القديمة, فان علماء الدين يطالبون جميع من تتوافر فيهم شروط الفتوي ويتصدون لتلك المهمة الجليلة بالتزام منهج الوسطية ويقول الدكتور محمد السعدي مدرس البلاغة والنقد بجامعة الأزهر, إنه يجب علي الفقهاء ومن يتصدون للفتوي, التزام منهج الوسطية التي توازن بين الثوابت والمتغيرات, فلا إفراط ولا تفريط, فالناس في حاجة إلي تبني منهج التيسير والاعتدال في الفتاوي, فالمفتي الحق هو من وسع علي الناس ما ضاق عليهم دون مساس بالثوابت, وهناك كلمة لسيدنا علي بن أبي طالب, رضي الله عنه, يقول فيها:( ألا أخبركم بالفقيه كل الفقيه؟ من لم ييئس الناس من رحمة الله, ولم يرخص لهم في معاصي الله, ألا لا خير في علم لا فقه فيه, ولا خير في فقه لا ورع فيه, ولا قراءة لا تدبر فيها), ويجب علي من يتصدي للفتوي ألا يقحم ثوابت الدين في خضم الاختلافات الحزبية, والصراعات المذهبية التي تفرق الناس وتشرذمهم ولا تجمعهم, والاتحاد في ديننا واجب, فمن واجب من يتصدون للفتوي السعي الجاد ماديا ومعنويا لتحقيق الوحدة, التي هي فريضة شرعية, وضرورة ملحة لقوة أمتنا. كما يجب علي المفتي الجديد ومن يتصدون للفتوي الاطلاع علي المستجدات في جميع النواحي سواء السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية, ودراسة النوازل الفقهية واستنباط الحكم الشرعي المناسب لها عن طريق المواءمة بين فقه الدين وفقه الحياة وبيان الحكم الشرعي للناس سواء سئلت عنه أولم تسأل عنه, لأن المفتي كما قال سادتنا من أهل العلم قائم مقام النبي صلي الله عليه وسلم, فهو نائب عن النبي في تبليغ أحكام شريعته لأتباع ديانته, وأن العلماء هم ورثة الأنبياء, وأنهم يبلغون الحق ولا يخشون فيه لومة لائم, قال تعالي:, الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفي بالله حسيبا], الأحزاب:39]. ويقول د. جمال المراكبي عضو مجلس إدارة جماعة أنصار السنة المحمدية والرئيس العام السابق لها: إن التصدي للقضايا المثيرة للجدل ليس دور دار الإفتاء, وإنما دور مجمع البحوث الإسلامية, وهيئة كبار العلماء, موضحا أن دار الإفتاء عليها أن تهتم بإصدار الفتاوي الخاصة بالمواطن البسيط في وقائع حياته, وهذا دور تشاركها فيه لجان الفتوي بالأزهر أو بالجمعيات الدعوية مثل أنصار السنة أو الجمعية الشرعية والدعاة والعلماء بصفة عامة, وأن إعطاء الفتوي المناسبة للفرد دور مهم لا يصح التقليل من أهميته; لأنه يمس مصلحة المواطن, خاصة أمور الزواج والطلاق وغيرها, والمهمة الثانية لدار الإفتاء مهمة قضائية تتعلق بأحكام الإعدام, والمهمة الثالثة هي الإعلان عن دخول وخروج الشهر الهجري, وهو ما نأمل في أن تسهم دار الإفتاء من خلاله في العمل من أجل وحدة الأمة وليس تفريقها, كما يحدث في كثير من الأحيان خاصة عند دخول شهر رمضان, وهذه المهام ملقاة علي عاتق دار الإفتاء, ولا ينبغي أن تشغل نفسها بالقضايا السياسية, مشيدا بوجود مفت منتخب دون قرار سيادي. وأن هذا يجعل المواطن البسيط يشعر أن دار الإفتاء مؤسسة متجردة وليست صاحبة هوي, ولا ينتصر فيها لرأي سياسي أو فقهي أو مذهبي. أما الدكتور عبد المجيد محمد السوسوه, أستاذ أصول الفقه المشارك بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الشارقة, فيري أن التيسير في الفتوي لايعني الإتيان بشرع جديد, أو إسقاط ما فرض الله, وإنما المقصود بالتيسير الوسطية في الفتوي, وتقديم الأيسر علي الأحوط, والتيسير فيما تعم به البلوي, ومراعاة الرخص, والتحري, وعدم التوسع في تكليف الناس بالأحكام بدون دليل صريح يقضي بذلك.